من إيران إلى مصر.. محنة المثقف واحدة

فاضل السلطاني

TT

ما الذي يجمع بين أحمد القبانجي، المثقف الشيعي العراقي ذي العمامة السوداء، المعتقل الآن في إيران, بتواطؤ مفضوح من الحكومة العراقية. من دون توجيه أية تهمة له، والباحث المصري العلماني يوسف زيدان، الذي بدأت نيابة أمن الدولة العليا التحقيق معه أخيرا بتهمة «ازدراء الأديان السماوية»؟ لماذا هذا الخوف من الرجلين؟ هو الخوف نفسه الذي دفع بعضهم إلى قتل مهدي عامل وحسين مروة في لبنان (وهما اليساريان اللذان ينتميان لطائفة القبانجي نفسها)، وهو الخوف نفسه الذي أدى من قبل إلى تكفير الباحث في الشؤون الإسلامية نصر حامد أبو زيد في مصر. لماذا هم خائفون، إلى الدرجة التي يتحولون فيها إلى سجانين أو قاتلين؟ السبب واضح.

أخطر شيء بالنسبة لهؤلاء هو أن تحفر في الأرض التي يقفون عليها، ويستندون إليها وكأنها وقف لهم: التراث. بإمكانك أن تفعل كل شيء، ولكن إياك أن تقرب التراث، خاصة إذا كنت من أهل البيت، الذي يعرف كل أسراره وخفاياه. في مثل هذه الحالة لا يتضاعف خطرك فقط، وإنما تأثيرك أيضا، كما أنه لا يمكن أن يلصقوا بك تهما طائفية جاهزة.

هنا جريرة القبانجي، ومروة وعامل وأبو زيد، وقبلهم علي عبد الرازق وطه حسين.

لا أحد يستطيع أن يزايد على القبانجي لا في إيمانه الديني، ولا في تبنيه أفكار وقيم الثورة الإيرانية منذ انطلاقتها، بل هو قاتل إلى جانب الإيرانيين مرتين، وفي المرتين كاد يفقد حياته، وكان يؤمن إيمانا صادقا برؤية الخميني للإسلام كما درسه في الحوزة. ولكن الرجل رأى بحسه النقدي ما لم يره البعض، الذين غلبت شهوة السلطة فيهم سطوة العقل، والذين، كما يقول: «انساقوا مع القشور، وركزوا على القضايا الشكلية. أما جوهر الإنسان، فقد انسحق في خضم الصراع على السلطة وتنامي الفساد». لم يصبح القبانجي عدوا للثورة الإسلامية، بل كان يرى أن هذه الثورة قد أصبحت عدوا لنفسها، وللقيم التي انطلقت باسمها.. يقول: «ما زلت مع جوهر الثورة وحلمها، لكن الجمهورية الإسلامية فشلت في تحقيق حلم الثورة ورسالتها، وهي تقدم الآن إسلاما فارغ المحتوى».

انطلاقا من التجسيدات الواقعية لما يسمى «الإسلام السياسي»، وليس من تنظيرات هذا التيار عن نفسه، انطلق القبانجي من الفضاء الذي كان يدور فيه، إلى فضاء أوسع، وهو فضاء التجربة الإنسانية كلها، ليتوصل إلى القناعة نفسها لدى محمد عبده من قبله، وهي أن القيم الإنسانية قيم واحدة، دعا إليها الفكر الإسلامي الأصيل، قبل أن يخطفه البعض، كما دعا إليها دعاة التنوير في أوروبا. لكنها تحققت هناك، ولم تحقق هنا.. والمهمة الكبرى والعاجلة أيضا العمل على إحيائها، ونفض الغبار الذي غطاها، وهذا لا يمكن أن يتم من دون مساءلة التراث، وكشف جوانبه المضيئة، وطرح ما علق به من شوائب ضخمت فبدت وكأنها حقيقته الوحيدة.. ودون هذه المهمة بالطبع السجن والدم.

لم يفعل يوسف زيدان في مصر أكثر من ذلك، في دراساته ورواياته، خاصة «عزازيل». إن خطيئته الوحيدة، مثل القبانجي، هي نبش التراث، وهذه المرة التراث المسيحي، وهو جزء أساسي من تراث المنطقة. لم يدعُ زيدان إلى الوثنية، كما يُتهمه البعض، ولم يسئ إلى الكنيسة القبطية، وإنما كان سعيه الوحيد، من خلال بطله هيبا في رواية «عزازيل»، هو معرفة الحقيقة. ولكي يحقق ذلك، لا بد من تفكيك التراث الذي صنعنا، وشكل تصوراتنا، وصاغ رؤانا، فهو، قبل كل شيء، تراثنا نحن، ولم يكلف الله أحدا حارسا عليه.

لكن من لا يستطيع مقاربة الحجة بالحجة، يلجأ إلى أرخص الأسلحة: التكفير أو السجن أو القتل.. لكن كل هذه الأسلحة الفتاكة لا تدل في النهاية إلا على شيء واحد: اعتراف صريح بالهزيمة.