معرض الكتاب.. من يحرس الأسوار؟

ميرزا الخويلدي

TT

حتى قبيل أن تحط «جحافل» الناشرين رحالها في الرياض، بدأ السجال الكبير الذي يتكرر كل عام تمهيدا للمنازلة الكبرى التي تدور رحاها في أروقة معرض الرياض الدولي للكتاب.

«منازلة» يريد أصحابها إثبات حضورهم و«استملاكهم» ولو رمزيا للمشهد الثقافي، لكنهم يعلمون أن عصر الحراس الواقفين على أسوار القلعة قد انتهى، الأفكار والثقافات لا تطرق الأبواب ولا تطلب تأشيرات دخول.

ليس الكتاب وحده، فكل ما لدينا اليوم يعتبر ناقلا سريعا للثقافة؛ من وسائل التواصل، إلى وسائل الإعلام، إلى الدراما، وإلى المنتجات الاستهلاكية التي تمنحنا الرفاه. كلها تصنع ثقافة تغيير أشد أثرا مما يفعله الكتاب.

هنا في مدينة منفتحة مثل الرياض، التي تتشكل أحياؤها بهويات متعددة، وأجناس ثقافية متنوعة، وسمات حضارية مختلفة. خذ شارعا تجاريا مهما كشارع «العليا»، حيث لا يختلف من حيث المحتوى عن شوارع التسوق العالمية، كـ«ريجنت ستريت»، أو «أكسفورد ستريت»، أو«الشانزلزيه» أو شوارع التسوق الأخرى، وهو يضج بعشرات الأسماء من دور الأزياء العالمية، وماركات الساعات والجلديات والعطورات والماكياج.. وكلها رموز لثقافة ومنظومة سلوك ومعارف تنتشر وتؤدي دورها في التغيير الثقافي أكثر من أي كتاب.

أما لماذا يحدث هذا الجدل كل عام؟ فلأن هناك من هو مسكون بهواجس الخوف من الآخر، لا يريد أن يرى إلا صورته، ولا يسمع إلا صوته، ولا يقرأ إلا فكره. ويحدث هذا الجدل لأن هناك من يستثيره خوض المعارض وتحقيق انتصارات وهمية. ويحدث هذا الجدل كنتيجة لانعدام وسائل الحوار والتواصل وقبول التعدديات الفكرية. وهذا الجدل يأتي نتيجة المبالغة في أداء دور الوصي على عقول الناس وقناعاتهم.

لكن، من كان يظن أن التدافع الهائل للثقافة لا يتم إلا عبر صفحات الكتب، فهو مخطئ؛ بل يمكن اعتبار الكتب اليوم وسائل النقل البطيئة للمعارف وسط الفضاء الإلكتروني المفتوح. أما من يظن أنه يستطيع الحد من تأثير الأفكار في عالم منفتح ومتداخل مع بعضه فهو يعيش الأوهام. بل يبدو المحاربون المتطوعون الذين يلاحقون الأفكار ليقمعوها أشبه بـ«دون كيشوث» وهو يصارع طواحين الهواء، ورغم الحماسة فإنهم أشبه بمن يدفع الشمس بغربال. فلا مجال للوقوف أمام طوفان الأفكار والثقافات، لأنها لا تتدفق من معين واحد، ولا من اتجاه واحد، ولأن وسائل الصد مهما تنوعت فهي قديمة وبالية ولا يمكنها أن تصمد.

ومن يريد أن يمنع كتابا خوفا من محتواه الثقافي؛ كيف سيمنع مئات القنوات الفضائية التي تتيح لملايين الشباب التنقل بين عوالم مختلفة في لمح البصر، فمع كل فيلم أجنبي هناك عادات، وأخلاق، وقواعد سلوكية، وثقافة تترسخ بقوة، أكثر ربما مما يتيحه كتاب أو صحيفة.

إن أقل ما يحققه معرض الرياض الدولي للكتاب، أن يفتح الباب على مصراعيه لكل المختلفين لكي يدخلوا بين الأجنحة يفتشون عن الكتب التي يقرأونها وينقدونها ويحاورون الأفكار التي تحتويها. وهو يمنح الجميع الفرصة للتعرف على ما يعيشه العالم اليوم من نتاجات فكرية وأدبية وفلسفية، وما تنتجه الثقافات المختلفة.

لكن رغم الجدل الذي يحاول أن يسلب منا بهجة الحدث، فإن مشهد الآلاف من الرجال والنساء الذين يسوقون أحمال الكتب أمامهم دليل هام على أننا أمام شعب تنمو لديه ثقافة القراءة، وأما حجم المبيعات المرتفع للكتب التي تقدم قراءات فكرية ونقدية جديدة ومختلفة فهو الآخر دليل على أننا لا نعيش في القلعة، ولا نحتاج إلى حراس يقفون على أسوارها.