بعد معرضي «بابل» و«شكسبير» المتحف البريطاني يعيدنا لـ«فيزفيوس»

400 قطعة فنية قيمة من إيطاليا تتنوع بين لوحات وتماثيل عاجية وفسيفساء على الجدران

حدائق بومبي
TT

باغتها الموت وهي ترفع طفلها بين يديها، يرقد بجوارها زوجها في قيلولة تصير الأخيرة، عائلة مجهولة من مدينة بومبي، لكن يخلدها الآن معرض «عن حياة وموت مدينتي بومبي وهيركولانوم الرومانيتين» في المتحف البريطاني للفترة ما بين 28 مارس (آذار) و29 سبتمبر (أيلول) 2013، ضمن سلسلة معارضه الدورية، كمعرض بابل وما يتعلق بشكسبير والحج والعصر الجليدي. في هذا المعرض، ينقل المشرفون عليه أكثر من 400 قطعة فنية قيمة من إيطاليا، تتنوع بين لوحات وتماثيل عاجية وفسيفساء على الجدران، وبقايا متحجرة لناس قضوا في كارثة المدينتين وغير ذلك من مواد تجسد تفاصيل الحياة اليومية كأدوات مستخدمة آنذاك في دور وأماكن عامة وأسواق.

* كارثة البركان

* على الساحل الجنوبي لإيطاليا حاليا، كانت مدينتا بومبي وهيركولانوم في عام 79 للميلاد، قد شهدتا أسوأ كارثة طبيعية جراء ثورة بركان جبل فيزوفيوس، فكان يوم ولادته يوم موت المدينتين بطريقة مريعة في مدى يوم وليلة فقط. في بومبي، لقي ما بين 12 و15 ألف شخص حتفه، وفي هيركلينيم، هلك ما بين 4 و5 آلاف من سكانها اختناقا وحرقا من حرارة بلغت 400 درجة مئوية، أي ما يعادل خمس مرات أكثر من حرارة غليان الماء، ودرجة تدمير، أقوى مائة ألف مرة من القنبلة الذرية على هيروشيما.

يعرض مخطط كبير على جدار المتحف، كيفية حدوث البركان ساعة بساعة، فيبدأ بعد منتصف النهار، نحو الواحدة عصرا، حين تنطلق منه غمامة هائلة إلى علو 20 كيلومترا نحو السماء، يليها بعد بضع ساعات، انطلاق غبار بركاني وصخور بحجم 50 سنتيمترا من جوف الفوهة، وسط ذهول الناس، ويبدأ غاز سام بالتسرب نحو بومبي، يختنق الناس خلف أبواب البيوت. ونتيجة لحركة البركان، تسقط سقوف المنازل على السكان، ويمتد تأثيره نحو مدينة هيركلينيم القريبة، وسط ذعر ناس فارين نحو الساحل، لم يجدوا النجاة بعد أن وصل تفجر البركان إلى ذروته عند المساء وأسفر عن حمم نارية، تدفقت بسرعة عالية مطلقة كتلا هوائية ثقيلة، وفي ساعات الصباح الأولى غطى المدينتين ظلام دامس وانعدم الهواء واكتسحت الحمم كل شيء أمامها من ناس وبنايات حتى وصلت للساحل، وهكذا اختفت مدينتين من الوجود.

* الحياة أولا

* شغف سكان المدينتين بحياة الترف والرفاهية انعكس جليا في مجموعة المعروضات من لوحات وزخارف وتماثيل ومنحوتات زجاجية وحلي ومظاهر رخاء في تصاميم بيوت وغرفها وحدائقها، واختيار ألوان وموزاييك ومقتنيات شخصية كالكؤوس والقدور والأواني وأدوات الزينة، وتستوقفنا لوحة متميزة لكلب بمقود وطوق حول رقبته، تحول في لوحة الموت إلى كلب متحجر. ويتجول الزائر في غرف معيشة وطعام ونوم وحمامات ويخرج للشوارع المعبدة بالصخور فيرى دكاكين لحلاقين وخبازين وصانعي جرار فخارية وعربات وحانات وبيوت دعارة، وحتى خربشات على جدرانها ومدلولات تشير إلى ثراء ما يقدر بـ10 في المائة من مجمل السكان، في مجتمع يمور بعبودية وتفاوت طبقي شائع آنذاك.

وتأتي الانتقالة المأساوية نحو الموت إلى ما خلفه البركان من دمار وفجائية، تركت أفواه بعض الضحايا مفتوحة من الرعب والدهشة، لتعرض وقائع متمثلة في أجساد بشرية متفحمة بمختلف اللقطات، يغطي تفحمها رماد بركاني متراكم، تحول لدى برودته إلى إسمنت صلد، حفظ قطع خبز وتمر مع تين وقمح وجوز وبيض وحنطة وبقوليات وطعام الوجبة الأخيرة.

وامتاز المعرض بخلق أجواء واقعية لما قبل وبعد الكارثة، ففي مشاهد الحياة، يدخل الزائر حدائق بومبي ويسمع مؤثرات صوتية لخرير مياه النوافير وزقزقات عصافير، ويتفرج على شاشة تعرض شوارع المدينتين ومظاهر حياتها اليومية، وفي شاشة أرضية، تموج سحب بركانية مظلمة وكأنها تطلق غازات متحركة صوب الكارثة. وفي الجانب المعلوماتي، نعرف أن اكتشاف المدينتين جرى ما بين سنة 1710 و1748 عن طريق حفر قنوات بعمق 20 مترا في مناطق، وإزالة ما ترك بجرافات في مناطق أخرى، وما زال ثلث مدينة بومبي غير مكتشف حتى الآن، رغم استخراج 1150 جسما منها، كما أن ثلثي مدينة هيركلينيم حتى الآن تحت الركام، بعد اكتشاف 350 جثة متحجرة.

وعلى هامش المعرض تقام فعاليات متنوعة كمحاضرات ونقاشات حول جانب معين من تاريخ المدينتين، وقراءات شعرية ونشاطات أخرى موجودة في دليل المتحف، وإشارة إلى أفلام وأعمال أدبية عن هلاك المدينتين، كرواية «الأيام الأخيرة لبومبي» لإدوارد بلوير ليتون، و«بومبي» للروائي روبرت هاريس، وهذا ما يجعل المعرض جديرا بالمشاهدة الدائمة.