مرة أخرى.. المثقف العربي والطاغية

فاضل السلطاني

TT

كيف يمكن تفسير تواطؤ قسم من المثقفين العرب مع الطغاة؟ كيف يتحول «حملة الثقافة الطليعية»، والرافعون ليل نهار شعارات الحرية والتنوير، إلى دببة ترقص، إذا استعرنا تعبير إيميه سيزير، على إيقاعات مذابح قل نظيرها في التاريخ الحديث.. مذابح لا تجري في مكان ما، وضد بشر في الواق واق، وإنما في أماكنهم هم، وضد ناسهم هم؟ كيف يتحول المثال الثقافي والجمالي، الذي لطالما سعى المثقف إلى تحقيقه، أو هكذا كان يبدو، إلى تواطؤ مخز مع الواقع القبيح؟

في كتابه المهم «كل ما هو صلب يصير هباء»، يشبه الكاتب الأميركي مارشال بيرمان مثقفي العالم الثالث، حملة الثقافة الطليعية، بفاوست.. فهم مثله يعيشون تمزقا حادا بين المثال الثقافي والرغبة الجامحة في التطور، وبين الواقع الاجتماعي الذين يعيشونه. لقد عاش فاوست الشاب حالما ينتمي إلى عالمه الداخلي أكثر ما ينتمي إلى الخارج. وكلما اتسعت دائرة عقله، زادت حساسيته عمقا، وتنامى نزوعه للاعتزال، وهذا يؤدي، بالنتيجة، إلى فقر علاقته بالخارج. لكن فاوست الناضج سينتصر على هذا التمزق التراجيدي، وعلى تلك الثنائية القاتلة بين «ثبات الحياة ودفئها؛ الحياة اليومية المعيشة في إطار نسيج جماعة ملموسة، وبين الثورة الفكرية التي حدثت في رأسه». هذا الانتصار، حسب بيرمان، يتم عبر تطور دائري، تدريجي مؤلم، على مستوى البناء النفسي والعقلي حتى يلتقي البناءان عند نقطة معينة ينبثق منها وعي حقيقي يسميه بيرمان «الوعي الفاوستي»، وهو الوعي بضرورة العمل مع جماعة حقيقية. ليس العمل معها فحسب، وإنما العمل من أجلها أيضا.

لكن بيرمان، في رأينا، يذهب بعيدا في المقارنة بين فاوست والمثقفين في البلدان المتخلفة. إنه يستعير ما قاله ماركس عن غوته ليطبقه على هؤلاء المثقفين على الرغم من الاختلاف الذاتي والموضوعي الهائل. لقد كان ماركس يؤمن بأن غوته، بصفته شخصا، قد تجاوز شروط مجتمعه نتيجة قوة روحية وفكرية هائلة تحققت في لحظة زمنية نادرة. وهو أمر تحقق لشخصيات قليلة نادرة في التاريخ الإنساني، منهم، في اعتقادنا، شكسبير وماركس نفسه.

فمثقف البلدان المتخلفة لا يزال يعيش في مجتمعات راكدة مغلقة تتوزع بين هياكل سلطوية رثة، وأخرى ذات نزعات فاشية، ترسخت مع مرور الزمن بوصفها مفاهيم اجتماعية - ثقافية، وشكلت جزءا من تركيبنا النفسي دون أن نعي.

إن ما نشهده الآن عند قسم من مثقفي البلدان العربية هو نشوء وعي زائف يعيد ترتيب الأشياء، في ميدان الممارسة العملية والفكرية، نتيجة الشروط التي ولدها، ويفرضها، الضغط الهائل للتراكم التاريخي المتخلف، والقمع السلطوي والاجتماعي العنيف، من دون أن يخلقا معهما نقيضهما القادر على تجاوز شروطهما. وتبدو خيارات المثقف، بالمقابل، خيارات محدودة: الخيار الأول هو الهامشية أو النفي الاختياري، في محاولة لـ«تجاوز» هذه الشروط بالهرب منها، لكنه تجاوز زائف بالطبع، لأن التجاوز الحقيقي لا يتحقق إلا عبر مواجهة هذه الشروط. وهذه المواجهة بدورها لا تحقق غرضها إلا عبر وعي تاريخي واجتماعي يسمح بفهم جوهرها، وتفكيكها إلى عناصرها الأولية، وبالتالي امتلاكها ذهنيا. وهي بالطبع مواجهة جدلية معقدة يتصارع فيها السلب والإيجاب، واليأس والأمل، ربما لعشرات السنين. وهي، أخيرا، مواجهة تبدو مستحيلة في الظروف التي نعيش. أما الخيار المزيف الآخر، فهو التوافق، وهو العلة التي تنخر في أجسادنا الآن. لقد تعب المثقف السزيفي، الذي عرفناه في الستينات، وتخلى عن شروطه المسبقة للتفاوض مع الواقع والمجتمع، وعن مسعاه العبثي، لكن النبيل، وخضع لشروط المؤسسة، سياسية كانت أم ثقافية. إننا نعيش عصر التوافق. لكن إذا كان التوافق عند المثقف الغربي، الذي يعيش في مجتمعات مدنية راسخة، يعني القبول بالقيم السائدة في هذه المجتمعات، وهي قيم إنسانية ترسخت بعد قرون طويلة من الكفاح مهد له مفكرو التنوير، فإن التوافق عند المثقف العربي عموما يعني القبول بسلطة الأمر الواقع، بمختلف أشكالها، في ظل غياب المجتمع المدني الفعال.