فيليب سوليرز ونساؤه

لعب السفر دورا كبيرا في شخصيته وثقافته

فيليب سولير مع زوجته جوليا كريستيفا
TT

هل يملك فيليب سوليرز ألا يكتب إلا عن النساء؟ نكتب هذا بمناسبة صدور كتاب فيليب سوليرز الجديد «بورتريهات نساء» (عن دار «فلاماريون»، 2013)، إذ منذ بدايات فيليب سوليرز وهو يكتب عن النساء ومن أجل النساء.

الكتاب الأساسي الذي منحه البداية الحقيقية للشهرة هو روايته «نساء». ومن حينها وهو يراكم النصوص عن المرأة، إبداعا وفي الفن، من خلال تتبعه للفن الإيطالي الذي يمنح المرأة وجسد المرأة أهميتين استثنائيتين.

ومن هنا فالكتاب الجديد لن يكون سوى إضافة أو تنويعا على موضوع معروف سلفا. نقول إنه استعادة لمكانته الكتابية، فهو لا يستطيع أن يعيش من دون أن تتسلط عليه الأضواء. صحيح أن مكانته «الطليعية» محفوظة في خريطة الكتابة في فرنسا، لعل من بينها دوره الكبير في تأسيس مجلتين رائدتين: «تيل كيل» و«لانفيني». كما أن إسهاماته، إنْ كتابة أو تنظيرا أو إثارة للجدل الفكري، هي أكبر من أن تذهب للنسيان.

ولكن سوليرز، وهو يرى ثبات بعض الروائيين الكبار في الساحة الأدبية الفرنسية، من بينهم باتريك موديانو وباسكال كينيارد وجان - ماري لوكليزو، وأيضا بزوغ جيل «شبابي» جديد من الكتاب أكثر شراسة منه، لعل منه ميشيل ويلبيك، يعرف إقبالا كبيرا من القراء، يجعله يحس بقليل من الغيرة (يفصح عنه أحيانا بنوع من السخرية الذاتية!)، إلى درجة التساؤل قبل سنوات قليلة عن نصوصه التي لا تروق الكثيرين.

وكانت هذه اللمسة من الغيرة دافعا لإصدار روايته ذات العنوان الباهت: «رواية حقيقية»، وفيها يحاول أن يثْبت أنه لا يزال قادرا على كتابة رواية بالمعنى الكلاسيكي للكلمة. والرغبة كان فيها نوع من السخرية الذاتية، ولم تثر ما كان يرجو منها سوليرز.

الكتابة عند سوليرز هي كتابة في العزلة، ففي العزلة يمكن للمؤلف أن يخلق شخوصه ويتأمل مصائرها، وفي العزلة يقرأ الكاتب، كما أن سوليرز من دون وجود الكتب لا يمكن أن يعيش (ومن هنا نزوعه المستمر للحديث عن قراءاته التي لا تحصى)، والحياة من دون الحب، عند سوليرز، لا قيمة لها، كما أن الطفولة هي المنبع الذي لا ينضب للكاتب، وقد استثمرها من دون حدود، ولم ينتظر طفرة أو موضة التخييل الذاتي كما هو الشأن الآن فرنسيا وعربيا.

لقد حظيت روايته الأولى «عزلة فضولية» سنة 1958، وكذلك نصوصه الكلاسيكية الأولى، بتقريظ من لويس أراغون وفرنسوا مورياك. وهو في هذا الكتاب الجديد الذي صدر بعنوان «بورتريهات نساء» يستعيد من خلال ماضيه، حين كان «يشغل الناس»، أي بعض طفولته، محطات صنعت منه ما هو عليه الآن، ولو أن في الأمر مرارة بالكاد يخفيها.

يكتب سوليرز من وحي السفر: «العشاق يتقاسمون طفولتهم، أي يتقاسمون الرغبات قبل أن تصبح رغبات. ومن هنا فإن تعبير (حب صاعق) دقيق. لا شيء مضطرب وهائج، رغم أنه بريق ورعد في سماء زرقاء جدا، بريق قادم من الهدوء. لقد شاهدت هذه الظاهرة مرة في جزيرة يونانية. لا اسم لهذه الظاهرة، وهي غير مشهودة من قبل».

وليس خافيا أن السفر يلعب دورا كبيرا في كتابة سوليرز، وخصوصا إلى إيطاليا، وعلى الأخص إلى فينيسيا. (هو ليس الوحيد بالطبع من مجايليه الذي أحبوا فينيسيا، لعل من بينهم مارغريت دوراس وبول موران..).

«الكتابة، المشي، النوم، ثم الكتابة وثم النوم. الشموس الغاربة في فينيسيا، السماء الحمراء، الماء الزئبقي، صواري المراكب المتأججة بالضوء الذهبي، نوارس لا تتعب، مرور سفن وقوارب لسحب السفن، هي أشياء عصية على الوصف. يتحدث مونتفيردي (هو كلوديو مونتفيردي، موسيقار إيطالي، ولد سنة 1567 ومات سنة 1643 بفينيسيا) وفيفاندي (ولد الموسيقار أنطونيو فيفاندي بفينيسيا 1678 مات 1741) عنها بشكل جيد. إنه المجد. هكذا كان الأمر في البدء. والآن، ودائما، وفي قرون القرون. آمين» (ص 42).

في كتاب «بورتريهات النساء»، وصف شاعري وأخاذ لعلاقات الكاتب مع نساء (من عائلته ونساء أخر تعرف عليهن في مسار الكتابة والحياة) ساهمن في صناعة «أسطورة الكاتب الشخصية»، ولكن القارئ يخرج منه، أيضا، بمتعة قراءة كل الأشياء العزيزة على قلب سوليرز، وخصوصا الفن بصفة عامة، والإيطالي بصفة أخص، الذي صنع النهضة الأوروبية.

ينتهي الكتاب بهذه الجملة المريرة: «فكروا للحظة، وأنتم تمرون أمام مسلة الأقصر وهي تنتصب في ساحة الكونكورد، ساحة لويس الخامس عشر سابقا، في كل هذه النساء اللاتي تم التضحية بهن على مذبح التاريخ. ولا تنسوا كليوباترا ولا أفاعي النيل» (ص 155).

هو دليل على أن فيليب سوليرز وفي لكل ماضيه، ولكل النساء اللاتي التقى بهن وصنعن بعض مجده، ولا يضحي بشيء.