شريف حتاتة: نعيش ردة ثقافية.. وأخونة الإبداع ستفشل

بلغ التسعين ورواية جديدة تجسد صراع الحياة بداخله

شريف حتاتة
TT

من تحت عباءة الشيخوخة، ورحلة حياة امتدت على مدار تسعين عاما، ينعى الروائي المصري الدكتور شريف حتاتة الروائي المشهد الأدبي في بلاده ويصفه بأنه يمر بمرحلة ردة ثقافية أكبر من التي شهدها خلال العصور السابقة، لأنها مدعمة بالسلطة الدينية، خاصة بعد صعود جماعة الإخوان المسلمين إلى الحكم، لكنه مع ذلك، وربما بحكمة التجارب والسنين، يرى أن هذا الوضع لن يستمر، وأن المجتمع لن يرضخ لمحاولات «أخونة» الدولة، والثقافة على وجه الخصوص.

ويشير حتاتة، الطبيب والأديب اليساري، إلى أنه بدأ مشواره الأدبي في عامه الثالث والأربعين، بعد أن قضى أعواما طويلة من عمره في السجن دفاعا عن مبادئ الاشتراكية التي يؤمن بها، وكتب سيرته الذاتية «النوافذ المفتوحة» في ثلاثة أجزاء، كما أن له الكثير من الروايات المهمة، كان أولها «العين ذات الجفن المعدني»، وتلتها روايات أخرى منها «الشبكة»، و«قصة حب عصرية»، و«عطر البرتقال الأخضر»، و«ابنة القومندان».

هنا حوار معه عن تحولات المشهد الثقافي المصري، خاصة بعد قيام ثورة 25 يناير التي أطاحت بالنظام السابق، وعن تجربته الأدبية، والمحطات المؤثرة فيها، وراويته الجديدة التي هي بمثابة سيرة ذاتية:

* كيف ترى الوضع الثقافي في مصر الآن؟

- نحن نعيش ردة ثقافية بدأت منذ عصر السادات واستمرت في عهد مبارك وحتى الآن، فالردة الثقافية كانت أقل كثيرا في عهد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر نظرا لوجود مشروع يتطلع الناس إليه، حين كان هناك حلم بالتغيير والاستقلال والتعليم والعلاج المجاني، والثقافة تنمو عادة عندما يكون المجتمع ككل في حالة تقدم وأمل، فهذا يحفز الناس للتفكير والابتكار والإبداع والبحث، ورغم وجود حجر على الحريات وقتها فإن الثقافة كانت مزدهرة نسبيا، وكان المثقفون يتمتعون بوضع مميز. ولكن بعد حدوث الانفتاح الاقتصادي في عهد الرئيس السادات، لم تعد هناك تنمية أو صناعة، وأصبح الاستهلاك هو الأهم، وتغيرت القيم وصار الاهتمام منصبا على الماديات، ولم يعد هناك مشروع تتطلع الناس إليه، فبدأت الثقافة بالاضمحلال، واستمر ذلك في عهد مبارك لوجود حجر على الإبداع والفكر. ولكن، أحيانا القهر يولد الإبداع عندما تكون هناك رغبة في مقاومة القهر، والردة الثقافية الآن موجودة بشكل أكبر بسبب وجود سيطرة دينية وعنصرية، ولكن ربما يولد ذلك إبداعا، وهو ما لا يمكن التأكد تماما منه الآن، لأننا في بداية المرحلة.

* هل ترى أن هناك اتجاها لـ«أخونة» الثقافة في مصر؟

- نعم، هناك نية لذلك عن طريق سيطرة «الإخوان» على المراكز الثقافية المختلفة والصحافة والتلفزيون والمؤسسات الثقافية، ولكن لن يكون هذا سهلا؛ فالمعارضة لتيار «الإخوان» قوية رغم عدم اتساقها وتوحدها في تيار واحد. جماعة الإخوان المسلمين تستخدم التفسير الرجعي والعنصري للدين، كما أنهم يستندون إلى قوى خارجية، ولديهم تطلعات ومؤيدون. ورغم ذلك، فإن السيطرة على الثقافة والمجتمع لن تكون سهلة، وسندخل في معارك طويلة المدى، وسيتطلب ذلك من القوى الديمقراطية التقدمية المستنيرة أن تنسق جهودها وتكون أحزابا، وهذا سيتطلب وقتا كبيرا، مما يعني أن التغيير لن يحدث في المستقبل القريب، وخصوصا أن التغيير في مصر مرتبط، إلى حد كبير، بالتغيير في العالم وبتشكيل القوى العالمية المضادة.

* صدرت لك مؤخرا رواية جديدة بعنوان «رقصة أخيرة قبل الموت».. حدثنا عنها.

- عمري الآن 90 عاما، وقد عشت حياة طويلة زاخرة بالكثير من التجارب ومتعددة الجوانب، كتبت عنها في سيرتي الذاتية «النوافذ المفتوحة». فقد تخرجت في كلية الطب، وعملت بعد ذلك في مستشفى قصر العيني بالقاهرة، ودخلت في معارك سياسية طويلة، وقضيت سنوات طويلة من عمري في السجن، وتزوجت ثلاث مرات، ولكنني شارفت على الموت، وأعيش الآن مرحلة الشيخوخة، وهي مرحلة من الصعب أن يدرك مصاعبها الكثيرون وخصوصا الشباب، فهي مرتبطة بقلة الجهد وعدم القدرة على القيام بأبسط الأعمال. وفي هذه الفترة الصعبة، أحاول المقاومة قدر إمكاني عن طريق الاستمتاع بمفردات الحياة بأقصى قدر ممكن وعدم الاستسلام للمتاعب، وهذا الصراع هو ما كتبت عنه في هذه الرواية، وحاولت التعبير من خلالها عن هذه الفترة الصعبة، فعنوان الرواية يدل على الصراع الذي يعيش بداخلي، الإحساس بالضعف، والتفكير في الموت ومحاولة مقاومته عن طريق الرقص، الذي يرمز إلى تحرر الجسم من الجمود، وتحرير الجسم وتحرير العقل. في هذه الرواية أتحدث عن فترة الشيخوخة بمتاعبها وجمالها.

* كيف جاء اختيارك لاسم الرواية؟

- جاءني عنوان الرواية مصادفة، فأثناء حفل زفاف أحد أقاربي انهمكت في الرقص من بداية الحفل وحتى نهايته، متناسيا عوامل السن والمرض والشيخوخة، ومتناسيا كل شيء عدا هذه اللحظة، وبعد أن انتهى الحفل جاءني صوت داخلي باسم الرواية «رقصة أخيرة قبل الموت». وأعتقد أن الرواية تعبر عن تجربة لم يكتب عنها الأدباء العرب بحرية، فهناك موضوعات يتردد العرب في الكتابة عنها، كالتعبير عن نواحي الضعف داخلهم، والعلاقة مع المرأة في شكلها السليم. ولكن، من أبرز الكتابات التي قرأتها تتحدث عن فترة الشيخوخة بعمق ووعي، رواية «الرجل البطيء» للكاتب «جون كويتسي»، الحاصل على جائزة نوبل للآداب.

* إذن، فالرواية الجديدة لم تخرج عن ما يمكن تسميته بـ«الأفق الذاتي» المعتاد في أعمالك.

- الذات عندي مهمة جدا، لأنني أرى أننا جميعا ذاتيون من دون استثناء، فلا أحد يرتبط بشيء ارتباطا قويا دون أن يرضيه ذاتيا، وإذا لم يحدث ذلك فسيبحث عن شيء آخر يحقق له هذا الرضا، فمن يدعي أنه غير ذاتي هو كاذب، لأنه يعتبر أن التعبير عن الذات عيب، وهذا غير صحيح. الإبداع عندما يأتي من الذات ومن التجربة الذاتية يكون مفيدا وصادقا، فالسجن مثلا موجود في كتاباتي بأشكال مختلفة، لأنني قضيت 15 عاما فيه، وبالتالي فهو جزء من تجربتي وساهم في تشكيلي إلى حد كبير. تجربة السجن أضافت الكثير إلي، وغيرت حياتي إلى الأفضل ،وجعلتني أقوى، وبالتالي التعبير عنها وعن غيرها من التجارب يضيف الكثير إلى العمل الفني.

* لكن البعض يرى أن تجربة السجن يتم إقحامها في بعض الروايات دون داع مثل روايتك «نور».. ما تعليقك؟

- لا أعتقد أن تجربة السجن في رواية «نور» كانت مقحمة، فالمعاناة كانت هي الرابط الرئيس بين نور بطلة الرواية وعزيز المغربي المناضل المسجون، فكلاهما ثائر بشكل مختلف، ورغم أنه لم يكن الشخصية الرئيسة فإنه لعب دورا مهما ورئيسا في حياة بطلة الرواية.

* هل هناك نية لتحويل إحدى رواياتك إلى عمل سينمائي؟

- حدثت ثلاث محاولات باءت بالفشل؛ ففي المرة الأولى كانت هناك نية لتحويل رواية «الشبكة» إلى فيلم سينمائي ولكنها لم تتم، بعد ذلك تكررت المحاولة عن طريق الفنان نور الشريف ومضينا عقدا بذلك ولم تتم أيضا، وأخيرا محاولة المخرج هاني لاشين تحويل رواية «قصة حب عصرية» إلى فيلم سينمائي، وهذا يرتبط بأن صناعة السينما، كغيرها من الصناعات، تهدف إلى الربح في المقام الأول، وبالتالي يذهب التمويل إلى الأفلام التجارية التي تحقق أرباحا وتجذب الجمهور.

* من الواضح أنك تميل إلى استخدام تقنية السرد السينمائي في رواياتك؟

- نحن في عصر الصورة، وكل من يهتم بالكتابة يتأثر بالسينما سواء أراد ذلك أم لا، فالسينما صار لها تأثير على طريقة الكتابة في العصر الحالي، وأصبحت تؤثر على جميع الكتاب بدرجات متفاوتة، وهذا دفع الناقدة السينمائية الدكتورة أمل الجمل لدراسة تأثير السينما على الكتابة الأدبية، لأنه من الشائع الحديث عن تأثير الأعمال الأدبية على السينما والروايات التي تتحول إلى أفلام سينمائية وليس العكس الذي صار شائعا في الأعمال الأدبية بشكل كبير.

* ما السبب وراء تخليك عن السرد الطويل بدءا من روايتك «عطر البرتقال الأخضر»؟

- في الفترة الأخير،ة صرت أميل إلى الروايات الأقصر، فبداية كتاباتي في روايتي «الشبكة» و«العين ذات الجفن المعدني» كان فيها سرد طويل، بعدها صرت أميل إلى الروايات الأقصر. وهذا يرجع ربما لأن قدرتي على الجهد قلت ولم أعد أميل إلى الروايات الطويلة، وأشعر بالحاجة إلى شحنة قصيرة لها معنى وعمق ومتعة فنية دون حكي طويل.

* تنوع في كتاباتك ما بين اللغة العامية والفصحى.. إلى أي مدى يكون ذلك مقصودا؟

- في كثير من الأحيان، أشعر بأن استخدام اللغة الفصحى يكون مصطنعا، فعندما أتحدث عن الشخصيات البسيطة في القرية أو العشوائيات أو الأطفال يبدو لي استخدام الفصحى مصطنعا وغير فني، فضلا عن أن لغتي في الأساس بسيطة جدا بحكم أنني تعلمت اللغة العربية بعد 22 عاما لأن أمي إنجليزية، وبالتالي فإن قاموسي اللغوي ليس كبيرا، وهو ما يعتبر ميزة لأن الفن بسيط وغير معقد، وهذا يجبرني على أن أكون مبدعا في استخدام أدواتي.

* هل تؤيد كتابة أعمال أدبية باللغة العامية فقط؟

- برأيي، الفن لا يخضع لقواعد صارمة، ولهذا لدي تحفظ على النقد في كثير من الأحيان، لأنه يفرض أطرا جامدة وطرقا معينة للكتابة، فأنا أرى أن النتيجة هي الأهم وليس اللغة المستخدمة. عندما يتمكن الكاتب من كتابة عمل روائي باللغة العامية، ولكنه يؤثر على الناس ويمتعهم ويساهم في تغيير طريقة تفكيرهم للأفضل ويعطيهم رؤية جديدة ومعلومات - يكون هذا عملا ناجحا، فالبعض يعتبر اللغة ملكه واللغة ليست ملكا لأحد، وكل شخص يستطيع استخدام اللغة بالطريقة المناسبة له والمعبرة عن ثقافته، كما أن فرض لغة معينة يخلق مجتمعا مصطنعا وغير حقيقي، فاللغة الشعبية زاخرة بالصور الفنية والمعاني المهمة التي يمكن الاستفادة منها.

* هل ترغب في كتابة عمل أدبي عن ثورات الربيع العربي؟

- لا أعتقد أن هناك ما يطلق عليه «الربيع العربي»، فالقوى الديمقراطية لم تنتصر بعد الثورة لأنها غير منظمة وغير قوية، فنحن نحيا في مآس على مستوى الدول العربية. أنا ضد الحديث عن أن هناك ربيعا عربيا، لأن ذلك لم يتحقق بعد. وأرى أن الكتابة عن الثورة في الوقت الحالي صعبة، لأن هذا يحتاج وقتا لنتمكن من رؤية الصورة بأكملها، فالأعمال الفنية التي تحدثت عن الثورة، سواء الكتابات أو الأفلام، قد تكون مفيدة في بعض الأحيان، لكنها غير عميقة.

* هل يمكن اعتبار الجوائز الثقافية معيارا لتقييم جودة العمل الأدبي؟

- أحيانا، لكن مشكلتها تكمن في أن هوية الناشر والناقد واللجنة التي تختار العمل الأدبي والمتحكم في الجوائز تلعب دورا مهما في مصداقيتها من عدمها، ففي أحيان كثيرة تكون الجوائز في غير محلها، وهو ما أثير مؤخرا حول جائزة البوكر التي اعترض عليها الكثيرون، فمعظم الجوائز صارت خليجية.

* برأيك.. لماذا يغيب عنصر التحرير أو (إعادة التقويم) قبل الطباعة في الأدب العربي؟

- هذا موجود في الغرب ويساهم في تجميل الرواية وجعلها أفضل، ولكنني لست من أنصاره لأن الكتابة عملية ذاتية جدا وانعكاس لمن يكتبها، لذا يتطلب أن يكون المحرر حريصا جدا على الرواية، ولا يتدخل في تحريرها إلا للضرورة القصوى، مما يتطلب منه أن يكون مدربا تدريبا جيدا، وهو ما أعتقد أنه غير موجود في الأدب العربي، فضلا على أن عملية التحرير تعتبر مكلفة إلى حد كبير.

* هل تخطط لكتابة عمل أدبي جديد؟

- في العادة، أنا لا أخطط لكتاباتي، وقد يكون هذا عيبا، لأن في الوقت الحالي أرى أن هناك ميلا للتخطيط واستخدام المعلومات داخل الرواية، ولكنني في الفترة الحالية أفكر وأتأمل، وآمل أن أستطيع الخروج بعمل أدبي.