ثاتشر.. ثقافيا

فاضل السلطاني

TT

ذهبت مارغريت ثاتشر، لكن بعدما قسمت تاريخ بريطانيا الحديث إلى ما بعد وما قبل، وخاصة ثقافياً، بالمعنى الأوسع للكلمة. وقد كتبت مجلدات عن سياستها الاقتصادية، وخصوصا في القطاع الصناعي التقليدي الذي أسهمت مساهمة مباشرة في تراجعه، ولكن قلما قرأنا دراسات معمقة عن الانعكاسات الثقافية لهذه السياسة، لأننا اعتدنا أن نفصل بين الاقتصاد والثقافة بسور صيني، أو ربما عائد ذلك إلى كون التأثيرات المتبادلة بينهما لا تظهر إلا بعد أمد بعيد بعدما كانت تعمل بشكل غير منظور على مستوى البنى التحتية.

لعل أخطر ما كرسته ثاتشر هو ثقافة الخصخصة. صحيح أن الخصخصة كنمط اقتصادي هي أساس النظام الرأسمالي، لكن هذا النظام الذي تحدث حتى ماركس نفسه عن حيويته القادرة على تجاوز أزماته الدورية، قد أخذ الكثير من النظام الاقتصادي الاشتراكي، ومنه التأميم، لتجاوز بعض من أزماته خاصة بعد الحرب العالمية الثانية. ثم جاءت ثاتشر لتنقلب على كل ذلك في مخاطرة اقتصادية كبرى لم يجرؤ أحد قبلها على خوضها، ربما من دون أن تدرس بشكل عميق نتائجها الكارثية، أو تستشير أحدا كما في معظم قراراتها المصيرية، حسب قول أحد وزرائها السابقين، وخصوصا في ما يتعلق بتخصيص قطاعي النقل والاتصالات، خالقة بذلك كارتلات عابرة للحدود. والأخطر أن ثقافة التخصيص هذه وصلت سريعا إلى بلدان العالم الثالث، التي لا تملك قطاعا خاصا متينا يمكن أن يستثمر في القطاعات الإنتاجية، كما في اوروبا واميركا، وإنما برجوازية فندقية رثة سرعان ما تحولت إلى أخطبوط افترس كل شيء. (انظروا تجربة مصر). كل ذلك، خلق ثقافة اجتماعية محورها المصير الشخصي، الذي يقرره غالبا عنصر التملك (ثاتشر هي التي أشاعت وشجعت ثقافة تملك البيوت بدلا من الإيجار، وهو تملك وهمي لأنه يبقيك طوال حياتك عبدا مرهونا للبنوك)، بالإضافة إلى عنصري المهارة الشخصية، أو قل الشطارة، واللهاث وراء الربح السريع. وبكلمة واحدة، ارتفعت الفردية فوق مستوى الجماعة. وهي نفسها قد عبرت عن هذا الاختلال الاجتماعي الخطير بقولها الشهير: لا أعرف شيئا اسمه المجتمع.

أما على مستوى البنية الثقافية، بالمعنى الضيق للكلمة، فإن ما تشهده بريطانيا حاليا هو نتيجة مباشرة للسياسة الثاتشرية، الذي تبنى توني بلير «الاشتراكي» عناصر كثيرة منها، ومنها إلغاء مبدأ التعليم الجامعي المجاني، ثم جاء المحافظون ليعيدوا تبنيها كلية. لقد أغلقت مكتبات كثيرة تابعة للبلديات، كانت تقدم خدماتها مجانا لملايين الناس، نتيجة قطع مساعدات الدولة عنها، وبات كثير من الأقسام الإنسانية في أرقى الجامعات البريطانية مهددا بالإغلاق، وتوقفت وزارة الثقافة الحالية عن مساعدة كثير من المنظمات الثقافية، ومنها مجلس الفنون البريطاني، أو خفضت هذا المساعدات إلى حد كبير لدرجة الخنق.

مواقف تاتشر الرسمية هذه من الثقافة، التي تحولت أرثاً ما يزال مستمرا، كانت منسجمة تماما مع شخصيتها. فحسب شهادات كل من عرفوها عن كثب، لم تهتم المرأة إطلاقا بالثقافة، فهي لم تذهب مرة واحدة إلى المسرح، ما عدا بعض مسرحيات «غلبرت وسوليفان» الفكاهية، وكان كاتبها المفضل السيئ الصيت جيفري أرتشر، الذي لم يأخذه أحد في الوسط الأدبي يوماً على محمل الجد.