عثمان الصالح.. أديب في ثوب تربوي

«ملاحظات غير عابرة» كتبها في المنهل خلال ربع قرن تعيده للواجهة بعد رحيله

عثمان الصالح
TT

رغم أنه أفنى جزءا كبيرا من عمره منغمسا في مهنته التربوية الإدارية وعمله الحكومي التعليمي معلما، وكان أول مدير لمعهد الأجنال الذي تحول لاحقا إلى معهد العاصمة النموذجي، وخرج الكثير من الأمراء أنجال الملك المؤسس وأبنائهم وأحفادهم، إضافة إلى الكثير الذين تسنموا مراكز قيادية في البلاد - فإن عثمان الصالح الذي اشتهر بلقب «عميد الأساتذة والمربي الفاضل» كان صاحب قلم لافت، وقد برز في كتابة المقالة والرسائل، إذ كتب في مجلة «المنهل» السعودية التي تعد إحدى المجلات الرائدة في البلاد وذلك طيلة أكثر من ربع قرن تحت باب «ملاحظات غير عابرة»، إضافة إلى مشاركات في معظم الصحف والمجلات السعودية، كما أنشأ الراحل اثنينية حملت اسمه في دارته بالرياض، كانت نواة مجلس حافل يجمع الأدباء والمثقفين والأعيان والوجهاء، كما وجه قبل وفاته قبل سبع سنوات بإنشاء مؤسسة خيرية للثقافة، وصدرت الموافقة من السلطات السعودية على إنشائها باسم «مؤسسة عثمان الصالح الخيرية للثقافة». ولعل اللافت أن الراحل عثمان الصالح هو أول من أنشأ معهدا لتعليم الفتاة السعودية، واستمر في إدارته لمعهد الكريمات مدة 23 عاما حتى تم ضمه لتعليم البنات بعد تأسيسها قبل نحو 6 عقود، وقد تخرج في المعهد إبان إدارة الصالح له وإشرافه على المعهد كوكبة من المسؤولات والمثقفات والأديبات والكاتبات السعوديات المعروفات.

عاد الصالح بعد رحيله بسبع سنوات إلى الواجهة بعد صدور كتاب تضمن كلمات وأفكارا ومتابعات صحافية وبحوثا قيمة تمثل فترة مهمة في تاريخ المجتمع السعودي من عام 1966م حتى عام 1992، حمل عنوان «ملاحظات غير عابرة»، ورأى جامع ومرتب الكتاب الدكتور محمد بن سعد الشريف في تمهيده للكتاب أن الراحل ضمن مقالته الشهرية في مجلة «المنهل» بملاحظات غير عابرة عن حياة المجتمع اليومية، والأحداث التي تمر بها الأمة. وأخذ يقلب تلك الأحداث ويكتب ملاحظاته التي يضمنها توجيه محب لوطنه، ناصح لأمته، مخلص لدينه. وظل سبعا وعشرين سنة يكتب عن هموم المجتمع السعودي خاصة، والمجتمع العربي والإسلامي والعالمي عامة. فصور لنا حياة المجتمع الدينية، والثقافية، والسياسية، والاجتماعية. وكان يوجه ويرشد المسؤولين في البلاد لما يراه مناسبا، أو يلفت أنظارهم لهذه الملاحظة أو تلك مثل: مطالبته بفتح مدارس، وإعطاء الموظف بدل تعيين يصرف له مع أول راتب يتسلمه، واقتراح المتاحف الوطنية في المناطق، وفتح المكتبات العامة الشاملة، والمطالبة بمجمع لغوي، وتوزيع الصحف السعودية في الخارج، وإقامة محميات طبيعية للحيوانات التي أوشكت على الانقراض، وإرشاد الأثرياء لإقامة أوقاف ضخمة ومستمرة بعد مماتهم، واقتراح تكوين شركة كبيرة للفنادق، إضافة إلى اقتراح إقامة أسواق للمواد الغذائية وعلى مساحات شاسعة.

ومن جانبه، رأى نجل الراحل الفريق المهندس عبد الإله بن عثمان الصالح أن القارئ سوف يجد في ثنايا هذا السفر «كاتبا تفيض خواطره بالقرطاس بأسلوب متدفق حر طليق، أدنى إلى شواغل الناس وهمومهم وطواياهم، كتابات تثمل بواقعية حقبة من الزمن مهمة في بلادنا شكلا وموضوعا، يليق بنا في عصرنا هذا أن نلم بها ألماما عميقا شاملا، لنستطيع أن نعرف أين كنا؟ وأين نحن الآن؟ وإلى أي اتجاه نريد أن نسير!». ويصف الأمير أحمد بن عبد العزيز، وزير الداخلية السعودي سابقا، وهو واحد من تتلمذوا على يد الصالح حتى نهاية المرحلة الثانوية، معلمه الشيخ عثمان الصالح، الذي أفنى عمره في خدمة قضية التعليم، إدارة الشيخ الصالح، بـ«الحازمة»، حيث كان لا يفرق في تعامله بين الأمير وغيره، فالكل عنده سواسية. ومما جاء في كتابته: «لا أذكر يوما أن الشيخ عثمان الصالح - رحمه الله - قد تخلف عن الحضور إلى المدرسة يوما، فقد كان مواظبا على الحضور، وقد كان يفني يومه كله في التعليم، ليلا ونهارا»، موضحا أن كثيرا ممن تتلمذوا على يد الشيخ عثمان الصالح، هم حاليا من كبار المسؤولين في الدولة، تقاعد بعض منهم، بينما لا يزال البعض الآخر على رأس العمل.

واعتبر أدباء ومثقفون أن برحيل الصالح تكون الساحتان التعليمية والثقافية قد خسرتا علما من أعلام التربية والثقافة والأدب، الذي لطالما اعتز بصفة المعلم والمربي المعاصر، حيث اشتهر بلقب (المربي الفاضل) لخدمته قطاع التربية والتعليم طوال أربعة عقود، متنقلا ما بين المجمعة مسقط رأسه وعنيزة والرياض، وكثيرا ما شهد له تلاميذه بمواكبته المحدثات التربوية ومعاصرة الأجيال التعليمية التي ظهرت بعده، ليصبح بذلك نموذجا للمربي الذي يجمع ما بين العلم والحزم والأخذ بمستجدات التربية الحديثة، فقد وصف الدكتور عبد العزيز الخويطر، وزير التربية والتعليم السعودي سابقا وزير الدولة عضو مجلس الوزراء في السعودية، الشيخ الراحل بأنه أحد الذين حفروا الجواد في مجال التربية، لافتا إلى جهوده في إدارته لمدرسة الأنجال ثم معهد العاصمة وجعل منهما نموذجين يحتذى بهما، وبقي تأثيره الحسن إلى اليوم في معهد العاصمة.

ورأى أن الشيخ الراحل يعد أحد أعلام التربية والثقافة والأدب، يعرفه القريبون منه معرفة جيدة مما يزخر به مجلسه من أدب وعلم وثقافة، يعرفه البعيدون عنه من مشاركات في الصحف والمناسبات المختلفة. ومن حصيلة ما كتب وما شارك فيه، يمكن أن يكتب عنه بحق ما يجعله في مقدمة مسيرتنا الذهنية في هذه البلاد وفي هذا الجيل.

من جانبه، وصف الأديب والناقد السعودي عبد الله الغذامي شخصية الشيخ الراحل عثمان الصالح بأنها «شخصية الإنسان المتأصل في أرض الواقع مع الناس وفي الناس. وما من أحد إلا ووجد من الشيخ كلمة أو كلمات يفيض بها ظنه الحسن وحبه لقول الكلمة الطيبة بسخاء وأريحية رجل سمح، علامته الحب، ولسانه رطب بهذه المحبة».

وقال حمد القاضي، العضو السابق في مجلس الشورى السعودي رئيس تحرير المجلة «العربية» سابقا، إنه فقد تواصله مع الشيخ عثمان الصالح قبيل وفاته بعام جراء ما ألم به من مرض، إذ كان لا يمضي يوم حتى يسعد برؤيته وسماع صوته، معتبرا لقاءاته به غنية بالعلم والشعر والأدب واللغة، واصفا الشيخ الراحل بـ«أدب النفس»، حيث قلما ما وجد وحده في أي وقت حتى بعد أن بدأت تضعف قواه.

* سيرة

* ولد الشيخ عثمان بن ناصر الصالح في عام 1916، في المجمعة قاعدة سدير التابعة لمنطقة الرياض، تلقى فيها تعليمه من خلال الكتاب على يد الشيخ أحمد الصانع، وحفظ القرآن الكريم، وانتقل إلى عنيزة أواخر 1928، وتلقى علومه في كل ما تعلق بالعلوم الحديثة والأدب العربي من الأديب المعروف صالح ناصر الصالح. ودرس بعد ذلك على يد الشيخ عبد العزيز العنقري، والشيخ محمد الخيال، وإمام الحرم المدني بالمدينة المنورة الشيخ عبد العزيز الصالح، وغيرهم كثيرون.

بدأ مشواره في الحقل التعليمي مطلع عام 1935، في مدرسة أهلية، انتقل بعد عامين للتدريس في أول مدرسة حكومية بالمجمعة، وفي عام 1939. انتقل إلى الرياض لتعليم أبناء الأمير عبد الله بن عبد الرحمن آل سعود، شقيق الملك عبد العزيز، وأصبح مديرا لمدرستهم فترة من الزمن. وللشيخ سبعة من الأبناء: أربعة ذكور، وثلاث إناث.

وشهد عام 1941 تأسيس معهد (الأنجال)، الذي ابتدأ حين ذاك بـ15 طالبا في المرحلة الابتدائية، وانتهى ببضعة آلاف، وقد ألغت (الأنجال) الدراسة بألواح الخشب ليصبح بذلك أول معهد ومدرسة حديثة بفرعين للبنين والبنات على منهج واختبار وزارة المعارف سابقا (التربية والتعليم حاليا)، كذلك معهد الكريمات الذي استمر 14 عاما، تمت مراحله الأربع من الروضة وحتى المرحلة الثانوية عام 1963، كانت بمثابة النواة الأولى في التعليم الثانوي في مدارس البنات.

وانتقل بعد ذلك إلى رئاسة البنات منفصلا عن المعهد الذي تم تغيير اسمه إلى معهد (العاصمة النموذجي)، كما أطلق عليه ذلك الاسم الشيخ بنفسه، الذي تولى إدارته حتى 1971 وتلقى فيه عدد من الأمراء تعليمهم. ويعد معهد الأنجال أول من أدخل دراسة العلوم الدينية للفتيات. وأنشأ المعهد أول صحافة مدرسية حديثة من خلال إصدار (الناصرية) أول مجلة سنوية، ودرب الطلاب على الكشافة، واتجه إلى التربية الرياضية.

ابتدأت إسهاماته في شؤون الأدب والثقافة من خلال إنشائه لصالون الاثنينية في عام 1996، الذي يحمل اسمه (اثنينية عثمان الصالح) لتقام بمنزله ندوات ثقافية نصف شهرية، يحضرها عدد كبير من صفوة الأدباء والمثقفين السعوديين.

وجاءت فكرة الاثنينية بعد رحيل الأديب عبد العزيز الرفاعي وما تركه رحيله من فراغ ثقافي وأدبي كبير، ومع تعدد لقاءات الأدباء والمفكرين والمثقفين في منزل الشيخ عثمان الصالح تم وبمباركة من الأمير سلمان بن عبد العزيز في منطقة الرياض عقد مثل هذه اللقاءات بصفة دائمة وبمعدل مرتين في كل شهر في منزل الراحل بحي المؤتمرات. واستمرت الاثنينية عدة سنوات لتكون أحد الروافد الثقافية في الرياض وقناة لإيجاد حلول مناسبة للقضايا المعاصرة المختلفة التي تطرح فيها. وعمل الصالح في مجالس ولجان حكومية كمستشار، وهو عضو في مجلس إدارة مؤسسة «الجزيرة» للصحافة والطباعة والنشر، وعضو في مجلس الأوقاف الأعلى في السعودية، ورئيس لمجلس الأوقاف الفرعي في الرياض.