عبد العزيز الصقعبي: نصي الأفضل لم أكتبه بعد

صاحب رواية «اليوم الأخير لبائع الحمام» لا يخشى الوقوع في فخ الكتابة التاريخية

عبد العزيز الصقعبي
TT

تمثل رواية «اليوم الأخير لبائع الحمام» لعبد العزيز صالح الصقعبي انعطافة جديدة في مشروعه الأدبي، كما تمثل في رأينا نقلة في عموم الرواية السعودية، فهذه الرواية التي تتناول سيرة أسرة تعيش في مدينة الرياض العاصمة، وتتبع التحولات التي مرت بها عبر أربعة أجيال من عمر الأسرة، ومن خلالها تطل الرواية على المشهد العام للمدينة وللبلاد ومحيطها، حتى إن إحدى ناقدة قارنت بينها وبين رواية «مائة عام من العزلة» لماركيز، وهناك من شبهها بـ«حديث الصباح والمساء» لنجيب محفوظ.

وقد صدرت للصقعبي قبل هذه الرواية سبع مجموعات قصصية، وثلاث روايات.

* حرفة الكتابة

* في البدء، سألت الصقعبي عن سبب نزوعه نحو كتابة سيرة مجتمع يموج بالتحولات، فأجاب: «منذ النص الأول الذي كتبته وأنا أسعى إلى أن أتجاوزه لأكتب نصا أفضل منه. أحتفي بالنص الذي أكتبه فترة الكتابة حتى يصل للقارئ، وبعد ذلك أشعر بأن نصي الأفضل هو ما سأكتبه وليس ما كتبته».

ويتحدث الصقعبي عن تجربته بالقول: «لقد سعيت منذ مجموعتي القصصية الأولى (لا ليلك ليلي ولا أنت أنا) إلى أن أكون مختلفا.. ومميزا.. وبالطبع هذا يحتاج إلى جهد يتمثل بتكثيف القراءة، ومعرفة تجارب المبدعين العرب والعالميين».

ومن هم هؤلاء المبدعون؟ يجيب: «كنت متواصلا قرائيا مع الأنساق الكتابية المختلفة، وكنت أتابع ما يكتبه زكريا تامر وأمين صالح وعبد القادر عقيل ومحمد زفزاف وعبد الرحمن مجيد الربيعي، وجيل الحساسية الجيدة، كما وصفهم إدوارد الخراط، في مصر.

وحين قررت أن أكون قاصا أخذت الأمر على محمل الجد.. وتحولت الكتابة لدي من هواية إلى شيء أشبه بالحرفة تستوجب الإتقان في العمل.. لذا لكي تقنع الآخرين لا بد أن تقدم شيئا متقنا.. وأنا لا أستهين بذلك مطلقا.. فثمة نصوص كثيرة كتبتها ومزقتها، وكل عمل روائي كتبته تفرغت لكتابته ووقفت عند كل كلمة فيه، لذا فرواية (اليوم الأخير لبائع الحمام) مبنية على تراكم معرفي وقرائي.. وكتابي أيضا».

«اليوم الأخير لبائع الحمام»

تمثل رواية «اليوم الأخير لبائع الحمام»، كما قلنا، نقلة مختلفة عن تجارب الصقعبي الروائية السابقة كما في «رائحة الفحم»، و«حالة كذب»، وحتى عن رواية «مقامات النساء» التالية لها، كما يوضح هو: « كل عمل روائي أكتبه يمثل مشروعا متكاملا له نسقه الخاص، ففي أواخر الثمانينات عندما كتبت رواية «رائحة الفحم» كانت لدي الرغبة في كتابة الرواية، ولكن ضمن هاجسي القصصي والمسرحي، فجاءت الرواية تجمع بين نسقي القصة والمسرحية، الحدث موجود، مهم وخطير، ولكن توارى خلف النسق الشعري للنص، والمونولوج الطويل للبطل، هي تجربة أعتز بها، تبعها بعد زمن رواية (حالة كذب)، وقد كانت خطوة أولى للولوج إلى عالم الرواية وفق تقنية مختلفة تركز على الصراع النفسي، وترصد أحداثا واقعية، زمن الرواية لم يتجاوز الشهر، ولكنه مملوء بأحداث كبيرة وكثيرة، بعد ذلك كانت رواية (طائف الأنس) محطة استراحة، حكاية واقعية تتحدث عن العلاقة بين الآباء والأبناء، لنصل إلى رواية (اليوم الأخير لبائع الحمام) التي احتاجت إلى جهد بحثي قبل الجهد الكتابي، لم أذكر تاريخا محددا، ولكن ذكرت أحداثا وقعت في تواريخ محددة، واخترت شريحة اجتماعية محددة، أسرة من الطبقة الوسطى وهي تمثل أغلب سكان مدينة الرياض، عبر أربعة أجيال: الجد والجدة الأبناء والأحفاد وأبناء بعض الأحفاد، بالطبع التركيز على ثلاثة أجيال، والذي أسعدني هو إشارة الناقدة سعاد العنزي إلى أن رواية (اليوم الأخير لبائع الحمام) وتعاقب الأجيال بها، تذكر برواية (مائة عام من العزلة) لماركيز، و(حديث الصباح والمساء) لنجيب محفوظ، في تناول الروائي لعدة أجيال، وبعد هذه الرواية صدر لي روايتي الخامسة (مقامات النساء)، وهذه الرواية، ربما، محطة استراحة لي في كتابة الرواية، بنيتها على حكاية واقعية، وتركز على علاقة الرجل بالمرأة».

* الرواية وسيرة المجتمع

* ولكن هل قصد الصقعبي تحويل سيرة المجتمع الذي تطل عليه من خلال أسرة تعيش في العاصمة الرياض إلى ما يشبه العمل الدرامي، كونه قريبا أيضا من الكتابة المسرحية؟ يجيب: «ربما لو فكرت بكتابتها دراميا لسلكت نسقا مختلفا، قد يكون أوضح وأبسط. في العمل الدرامي يكون الحدث متعلقا بشخصيات العمل، أما في رواية (اليوم الأخير لبائع الحمام)، فثمة أحداث كثيرة قد لا يكون لها علاقة مباشرة بشخصيات الرواية، ولكن تمثل خطا موازيا للتاريخ الخاص لهذه الأسرة التي بدأت تكوينها مع بداية توحيد المملكة، معرجة على أحداث داخلية وخارجية، بدءا من مؤتمر دول عدم الانحياز، مرورا باقتحام الحرم وحصار بيروت وغزو الكويت وأحداث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول)، وانتهاء بتفجيرات الرياض ومحاكمة صدام. عند تحويل العمل إلى نسق درامي سيتضخم العمل؛ لأن كل شخصية لها عالمها وحياتها، التي لو اتبعت النسق الأفقي في كتابة النص لتجاوزت الرواية الألف صفحة».

الصقعبي نحى منحى الكثير من الأدباء الذين حاولوا تفكيك العلاقات المتشابكة التي تحتويها المدن الكبيرة، وتكوين بيئات خصبة بالحكاية، لكن بالنسبة لروايته «اليوم الأخير لبائع الحمام»، فهي تختار المدينة الأكبر في السعودية حاضنة للتحولات، رغم أن المدينة كيان طارئ ثقافيا وفكريا في الوعي الاجتماعي لمجتمع نازح من الريف والبادية، وما زال يحتفظ بتأثيراتها. هل واجهته صعوبة في تفكيك هذه الثنائية في الهوية الثقافية؟

يقول: «ليس من السهولة أن أكتب عن مدينة الرياض ومجتمعاتها لعدة أسباب، ربما أهمها أن علاقتي في هذه المدينة بدأت منذ سنوات قريبة، لقد درست المرحلة الجامعية بها، ويوجد بها أقرباء علاقتي بهم قوية، ولكن عندما بدأت بكتابة هذه الرواية كنت حريصا على اختيار شخصياتي بعناية، أعرف حي الصالحية بالرياض، وكنت أعرف بعض الأسر به، ومدى البساطة التي يتسمون بها، ذهبت إلى الديرة وبدأت أراقب عن كثب بعض الباعة كبار السن، تعرفت على هواة تربية الحمام، وتتبعت ورصدت سير بعض الأسر في مدينة الرياض، وخرجت بنماذج مختلفة تجمع بين الرجل الطيب والمرأة المسالمة، والشاب الأرعن والفتاة قوية الشخصية أو الطيبة أو الساذجة، أو الرجل الوصولي، وهواة الاحتيال، نماذج متعددة، تمثل ثقافات متعددة في مدينة الرياض، بعضهم تحتضنه هذه المدينة، وهنالك من يحاول الهروب منها، مثل الدكتور نوح بن دخيل الله الثالث، الذي لم يستطع البقاء في الرياض وغادرها، وكذلك مازن بن عاشق. الأمر الأهم هو وجود الشاهد الصامت دخيل الله الذي أبقيته حيا شاهدا على جميع المتغيرات وازدواجية الأحداث من خلال ما يسمعه من أبنائه وأحفاده، ويسمعه من حفيدته سعاد زوجة حفيده دخيل، التي قدراتها العقلية تجعلها تقول الصدق والحقيقة، في زمن لا مكان فيه للحقيقة».

يصر الصقعبي على أن روايته «اليوم الأخير لبائع الحمام» لا تمثل سردا تاريخيا بقوله: «أنا لم أرصد تاريخ الرياض، بل رصدت تاريخ أسرة (الضبادي)، ثمة إشارات لتنقلات الأسر من أحياء في وسط المدينة إلى أحياء أحدث، ثمة إشارات للأسواق والطرق، ولكن الرياض تحتاج من يكتب عن عوالمها المتعددة، أن تتضح روح المدينة من خلال نص روائي، وبكل صراحة لم أقرأ حتى الآن ذلك النص؛ لأن هنالك روايات كتبت عن أناس يقطنون بعض الأحياء، ولكن أولئك الناس قد يكونون في مدن أخرى بصفاتهم التي قدمت في الرواية، حتى لو اقترن اسم الرواية باسم المدينة، وأنا واجهت هذا السؤال عند صدور روايتي (طائف الأنس)، حيث توقع البعض أن تلك الرواية رصد لتاريخ الطائف، والحقيقة أنها تتحدث عن شريحة تقطن الطائف وهم «الشروق»، أتمنى أن أصل بنص أكتبه لمرحلة رصد سيرة مدينة، سواء الطائف أو الرياض، وهنا أتذكر أورهان باموق وإسطنبول».

ويتحدث الصقعبي عن الصعوبات التي واجهته في عمليات البحث عن الأحداث والشخصيات والتواريخ قائلا: «أول صعوبة أو مشكلة هي أسماء الأسر، هنالك حساسية تجاه اسم الأسرة، خصوصا أنه قد يأتي في السياق انتقاص لتلك الأسرة، وهذا لا ترضاه أي أسرة في الوطن العربي، ففي البدء اخترت حرف الضاد نوعا من التميز العربي، ففوجئت بوجود عائلة تدعى الضادي، فقررت أن أدمج بين الضب والضاد، فجاءت الضبادي، وكذلك النسيجان، لقد بحثت في جميع محركات البحث وعلى رأسها (غوغل) عن تلك الأسماء، وعندما لم أجد أسرا أو عوائل بتلك الأسماء ارتحت كثيرا، واسم الأسرة رئيس في الرواية. أمر آخر.. عالم الحمام، وهواته، أنا أمام نص روائي يجب أن أكون حذرا محافظا على السياق، وعوالم الحمام وباعته وهواة تربيته وما يطلق عليه بالعامية (المطيرجية) عالم رحب ومذهل، لو انسقت وراءه لخرجت من سياق الرواية إلى سيرة أو سير لفئات لا علاقة لهم بعائلة الضبادي. أمر أخير.. جميع الصعوبات تلاشت بعد صدور الرواية، والصدى الذي لقيته من كثير من القراء، وفي مقدمتهم الأصدقاء الذين كتب بعضهم قراءات جيدة، مثل الصديقين أحمد الدويحي وعبد الحفيظ الشمري، إضافة إلى الدراسة المتميزة للناقدة سعاد العنزي، وهنا أقول إن كل عمل إبداعي يمثل خلاصة جهد وحصيلة معرفة، ومجرد الإشارة ولو بكلمات بسيطة عن هذا العمل أعظم مكافأة للكاتب».

ويتمنى الروائي الصقعبي أن تتحول هذه الرواية لعمل درامي لأنه «ثمة أكثر من خط درامي في تلك الرواية، تحتاج لمن يتناولها بوعي، بالطبع لا نغفل عنصري الزمان والمكان، وهنا التحدي في مجال الدراما؛ لأن الرواية ترصد سيرة تتجاوز النصف قرن، وإن كانت الأحداث في السنوات الأخيرة هي الأهم بالذات عندما بدأت علاقة دخيل بالحمام، وهي الأكثر تشويقا ودراميا.. ولكن التركيز على شخصية معينة يؤثر على بقية الشخصيات التي أراها أيضا مهمة».