بن حسين.. كفيف نافس المبصرين وتحول إلى عالم موسوعي

أنجز تأليف 40 كتابا في الأدب والنقد والشعر والتحقيق والتاريخ وأشرف على عشرات رسائل الدكتوراه والماجستير

د. محمد بن سعد
TT

عندما تلتقيه بعد أن تكون قد قرأت إنتاجه الأدبي والنقدي والشعري الذي وصل إلى الأربعين، بدءا من الأدب الحديث في نجد، مرورا بالملحمة في الشعر العربي الحديث، وانتهاء بتاريخ النقد والدراسات في الأدب السعودي، تستحضر الحوار الثوري للشاعر الكبير نزار قباني مع عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين مرددا:

ضوء عينيك أم هما نجمتان

كلهم لا يرى.. وأنت تراني

ارم نظارتيك.. ما أنت أعمى

إنما نحن جوقة العميان

ما علينا إذا جلسنا بركـــــــن

وفتحنا حقائب الأحزان

وقرأنا أبا العلاء قليلا

وقرأنا (رسالة الغفران)

إنه الدكتور محمد بن سعد بن حسين، الأديب والناقد السعودي الذي تحدى صعوبات الحياة والإعاقة البصرية، واهتم بأدب بلاده ودفعه إلى العالمية بعد أن أثرى المكتبة العربية بمجموعة من المؤلفات التي أربت على الأربعين في الأدب والنقد والشعر والتحقيق والتاريخ، وأشرف على جملة من رسائل الدكتوراه والماجستير وناقش الكثير من هذه الرسائل التي تجاوزت السبعين، وسجل اسمه حضورا محليا وعربيا، إذ عد أحد أساتذة النقد والأدب المميزين في العالم العربي، ونال عضوية رابطة الأدب الإسلامي، ورابطة الأدب الحديث بالقاهرة، وعضوية أندية أدبية محلية.

ويعد ابن حسين أول سعودي تعلم طريقة «برايل» للمكفوفين في بلاده، وإلى جانبها أيضا تعلم الضرب على آلة المبصرين قبل أكثر من 60 عاما، كما سجل اسمه كأول مؤسس لمدرسة تعليم المكفوفين قبل 58 عاما، كما أسهم في فتح مدرسة ابتدائية ليلية لأبناء منطقته قام بالتدريس فيها هو وزملاؤه بالمجان في التاريخ ذاته.

غاص الدكتور ابن حسين في بحار الأدب والنقد في سن مبكرة، فكتب عن التجديد في الشعر العربي وتاريخه ورصد ظواهره، وتناول الجغرافيا الأدبية، كما رصد مسيرة الأدب الإسلامي عبر العصور، ووقف على أحوال المكفوفين وأدبهم، وطرق موضوع المعارضات في الشعر العربي، كما خصص مؤلفا عن شعراء البؤس. وقدم ابن حسين خدمة جليلة لطلاب الدراسات العليا عن طرائق البحث والتأليف فيما يمكن تسميته بأدب الكتابة والتأليف، ألحق به معلومات ثرية عن الترقيم وعلامات الوقف، وأحوال الهمزة مما يحتاجه كل باحث.

وضمن خدمته للأدب والكتاب السعودي، قدم ابن حسين برنامج (من المكتبة السعودية)، أكثر من ألف حلقة إذاعية، ساهم من خلاله في التعريف بما تحفل به مكتبة بلاده من النتاج الأدبي والفكري والعلمي، وقد وصفه زملاؤه وطلابه بالعالم الموسوعي، حيث يعكس إنتاجه، من تأليف ومحاضرات وإشراف على الرسائل العلمية، قدرته على التقصي والبحث، ناهيك بحضوره في مجال الشعر من خلال ديوانيه: «هوامش الذات»، و«اشتعالا تعالية»، وقد بلغ مجموع صفحاتهما نحو 1500 صفحة.

كتب الكثيرون عن ابن حسين ودفع البعض منهم إلى التأليف عنه، إذ أنجز الدكتور عبد الله الحيدري الذي نهل من علم الأديب ابن حسين ولازمه وعمل معه، كتابا قبل ست سنوات عنونه بـ«محمد بن سعد بن حسين.. ببلوغرافيا»، ويقول الدكتور مسعد العطوي إن أستاذه ابن حسين الذي أشرف على رسالة الدكتوراه الخاصة به «باحث دائم، بل هو السابح في محيط العلم، فما تراه إلا في بحر العلم إما باحثا في الكتب أو مستمعا لحوار أو متحدثا أو هو يملئ ويملأ الصحائف، منزله روضة علم، ومكتبه في الجامعة روضة علم، ومجالسه منتدى معرفي، كما أنه الرجل العالم في الأدب والنقد، وهو العالم الشرعي الذي قرأ أمات الكتب الشرعية والأدبية».

أما الدكتور محمد العوين الذي لازم ابن حسين ودرس على يديه وأشرف على كل مراحله الدراسية طيلة عقدين، فيقول عنه: «طافت بي ذاكرتي وأنا أتأمله مستعيدا أول لقاء لي به قبل سبعة وثلاثين عاما، حين فاجأنا على غير علم به ولا معرفة سابقة رجل كفيف البصر يناهز الكهولة، أنيق مرتب الهندام، بلحية سوداء خفيفة مهذبة، وشارب معتدل الطول والكثافة، ربعة معتدل القامة بين القصير والطويل، يرتدي مشلحا ذا لون عودي على شماغ أحمر وجزمة بنية ويلبس نظارة قاتمة اللون حالكة السواد، كان هذا الدكتور الجديد الذي قدم لتوه، كما تحدث إلينا بعد البسملة والتحية، متخرجا في كلية اللغة العربية بالأزهر، وسيتحدث إلينا نحن طلاب السنة الثالثة عن بدايات عصر النهضة الأدبية في الوطن العربي والعوامل المؤثرة التي ساعدت على انتقال الأدب من حالة التقليد والركود في العصرين المملوكي والعثماني إلى انطلاقات التجديد شعرا بدأه محمود سامي البارودي ومن جاء بعده من الشعراء على اختلاف حظوظهم في التجديد إلى عصر شوقي، الذي انطلق بالقصيدة في آفاق أرحب ممهدا كأنه يضع الركيزة لانطلاقة الشعر العربي في آفاق جديدة متعددة الأطياف، ونثرا بدأه محمد المويلحي بحديث عيسى بن هشام ومن جاء من جيله كالشدياق وجورجي زيدان وقاسم أمين والمنفلوطي وغيرهم». ويضيف العوين قائلا: «بدأت الصلة بأستاذي تتصاعد وتنمو؛ ومن حسن الحظ أن اختارتني الإذاعة لأقدم برنامجه (من المكتبة السعودية) الذي بدأت أولى حلقاته قبل 35 عاما، كانت الأولى عن كتاب (عقود اللؤلؤ والمرجان في وظائف شهر رمضان) لإبراهيم بن عبيد آل عبد المحسن، وعمر طويلا إلى أن نيف على ألف حلقة قبل عشر سنوات، حيث سجلت معه بعد تلك السنين حلقة احتفالية خاصة مدتها نصف ساعة عن أسلوبه في إعداد البرنامج. ويشاء الله أن يكون مشرفا علي في كل مراحلي الدراسية؛ حيث أشرف علي في بحث التخرج عن الشعر السعودي، وفي الماجستير عن المقالة في الأدب السعودي الحديث، وفي الدكتوراه عن صورة المرأة في القصة السعودية».

وعن صفاته الشخصية، يقول: «لن أنسى لابن حسين حرصه على طلابه، وحثه لهم على سرعة الإنجاز، وفضله لا يمكن أن يغفل عنه منصف على الأدب السعودي، فهو صاحب الفضل في تخصيص هذا الأدب بفصل دراسي كامل في المستوى الثامن، وهو أيضا المفكر المقترح لكثير من موضوعات الدرس للباحثين في هذا الأدب، وهو على ذلك يعنى كل العناية بمن يدرس أو يريد أن يبحث في أي جانب من جوانب أدبنا، وحجته أن الأدب العربي في أقطاره قد خدمه ويخدمه أبناؤه وأدبنا ما زال بكرا مغيبا عن الحضور والدرس، وهو أدب غني بالقضايا وبالنصوص، ومن حق أبنائه عليه إيلاؤه ما يستحقه من الاهتمام».

ويشدد الدكتور العوين بالقول: «أزعم أن ابن حسين هو الباحث الأول في الأدب السعودي»، مستدركا: «لا يعني هذا التقليل من قيمة جهود أساتذة آخرين فضلاء؛ مثل إبراهيم الفوزان أو عبد الله الحامد أو محمد الشامخ وغيرهم؛ بل لهم جهود كبيرة مقدرة؛ لكن ابن حسين، بدأبه الطويل على تقصي المكتبة السعودية خلال ربع قرن عبر برنامجه، يكاد يكون شمل كل الإصدارات السعودية على اختلاف مناحيها، وهو جهد غير قليل، صدر منه (كتب وآراء) وبقي حسب علمي ما يغطي عشرة مجلدات لو طبعت، وهو أيضا أشرف على مئات الرسائل وصحح معلوماتها وأرشد باحثيها وهو أيضا تتلمذ على يديه مئات الدارسين، وحاضر وانتدى وتحدث لوسائل الإعلام ونشر المقالات في الصحف والمجلات، وبالنظر في هذا العمر العلمي الطويل الذي يقارب سبعين عاما لم يمل فيه ولم يكل ولم يتأخر عن كليته إلا بعد أن أقعده المرض - أرى أنه لم ينل حظه من التكريم، ولم يمنح جائزة يستحقها، وقد منح تلامذته ونسي هو، وجدير به وبأمثاله من الباحثين الكبار جائزة الدولة التقديرية في الأدب، التي آمل أن تعود من جديد مع ما يشبهها من جوائز كجائزة المهرجان الوطني للتراث والثقافة. نحن لا نسعى إلى التكريم إلا بعد فوات الأوان، وكأننا نكفر عن شيء من العقوق في أثناء الحياة، وهذه عادة أتمنى أن نقلع عنها، وأن نرى ونشعر بالمميزين فينا وهم أحياء لا أن نحتفل بجثثهم».