فنانون خارج النظام

في حالة عصيان مدني مستمر ضد النظام السائد ومجتمع الاستهلاك و«الإمبريالية الرأسمالية»

من أعمال الفنان الأميركي جان باسكيا
TT

قضية اختفاء التحفة الحائطية «سلاف لابور» للفنان البريطاني بانكسي المزينة لشارع وود غرين اللندني في ظروف غامضة، أسالت الكثير من الحبر وفتحت باب النقاش على مصراعيه: أولا لأن هذه التحفة ليست كمثل ما عهدناه من التحف، فهي عبارة عن «غرافيتي» على شقفة حائط في شارع شعبي شهرتها تعدت حدود البلد رغم أنها معروضة للجمهور مجانا.. وثانيا وهو الأهم هذه التحفة المختفية التي أنجزها الفنان بانكسي للتنديد باستخدام الأطفال كيد عاملة رخيصة وجدت معروضة للبيع في غاليري أميركي بمبلغ خيالي يتراوح ما بين خمسمائة ألف دولار إلى سبعمائة ألف دولار، وهي مفارقة غربية إذا علمنا بأن فناني الشوارع المعروفين تحت مسمى «ستريت أرتيست» أو «أوروبان أرتيست» يعتبرون أنفسهم فنانين «خارج النظام» ومتحررين من نفوذ أسواق الفن. وهم ضد المؤسسات الثقافية التي يعتبرونها بمثابة سجون خانقة لإبداعاتهم التي لا تجد معنى لها إلا في إطار فضاء مفتوح وبطابع عشوائي متحرر. فكيف حدثت هذه النقلة الكبيرة وكيف هجر «فن الشوارع» الأماكن العامة ليدخل المزادات العالمية ودور العرض والغاليريهات الفخمة؟

شهرة فناني الشوارع بنيت على سمعتهم كمبدعين عشوائيين يرفضون الدخول في خانات ضيقة، فهم كما يعرفهم بول أردان الناقد الفني ومؤلف كتاب «مائة فنان من الستريت آرت» (دار نشر «لامارتنيار»)، «فنانون في حالة عصيان مدني مستمر، ضد النظام السائد وضد مجتمع الاستهلاك وضد الإمبريالية الرأسمالية (...) يتحدون القانون ويقتحمون فضاءات عامة ليعبروا فيها عن حسهم الإبداعي لأنهم يؤمنون بأن الفن حرية وبأن للكل الحق في التمتع به دون حاجة إلى الدفع»، علما بأن معظمهم يرسم ليلا وفي السر لأن القانون يعاقب من يرسم على جدران الشوارع والمحلات والممتلكات الخاصة. القانون الفرنسي مثلا يعاقبهم بغرامة من الدرجة الخامسة تصل لـ1500 يورو وقد تتعداها إلى 30 ألف يورو والسجن سنتين إذا لحق بالممتلكات ضرر كبير، إضافة إلى ملاحقات قضائية قد ترفعها ضدهم جمعيات حفظ البيئة ومصالح البلديات وأصحاب العقارات.

الفنان الأميركي شبيارد فيري الملقب بـ«أوبي» والمعروف بحائطية «هوب» التي تمثل وجه الرئيس أوباما أوقف من طرف الشرطة ستة عشر مرة، وهو الآن في «فترة اختبار» بعد حكم بالسجن لمدة سنة غير نافذة بسبب رسومات حائطية في مدينة بوسطن.

ويتعرض البريطاني بانكسي منذ سنوات لملاحقات قضائية رفعتها ضده جمعية بريطانية تدعى «كيب لندن تايدي» بتهمة تشويه منظر المدينة، إضافة إلى ما تعرض له من مضايقات الشرطة التي لا تحبذ رسوماته على جدران البنايات. أما الفنان الفرنسي الملقب بـ«زوس» والمعروف برسوماته المستوحاة من ألعاب الليغو فقد أعلن في حوار مع إذاعة «فرانس كولتور» بأن زيارة أقسام الشرطة أصبحت شبه يومية بالنسبة له، قبل أن يتحدث عن تجربة سجنه في هونغ كونغ بعد رسمه على حائط محل مشهور. العمل في السرية وبصفة عشوائية جعل البعض يسمي فن الشوارع بـ«فن اللافنانين»، فمعظم أصحابه ينشطون بعيدا عن الأضواء، خوفا من ملاحقات الشرطة، رافضين التواصل مع وسائل الإعلام أو الإدلاء بتصريحات صحافية، معظمهم يحمل ألقابا مستعارة ولا أحد يعرف هويتهم الحقيقية، بل إن ملامح بعضهم مجهولة تماما كالفنان الفرنسي الملقب بـ«إنفاندر» المعروف برسوماته المستوحاة من ألعاب الفيديو، والذي يجول العالم منذ سنوات في سرية تامة، أو البريطاني بانكسي الذي وعلى الرغم من شهرته الواسعة ما زال مجهول الهوية، لم تفلح وسائل الإعلام لغاية الآن في التقاط أي صور له.

الالتزام السياسي يبقى تركيبة مهمة في نشاط هذه الفئة من الفنانين - كما يشرح بول أردن في كتاب آخر بعنوان «الفن في لحظته السياسية» (دار نشر «أنت بوست»): «فنانو الشوارع يحملون رسائل سياسية قوية، ليس فقط بحكم مكانتهم كمبدعين، بل أيضا في دورهم الذي يحمل منطق معارضة، فهم ينددون ويتحدون ويزعجون ويتساءلون ويدفعون الناس للتفكير.»...

تضيف الباحثة ستيفاني فورني في كتاب «آرتفيسم: فن، حركة سياسية، ومقاومة ثقافية» (دار نشر «ألترناتيف»): «فنان (الستريت آرت) يعتبر الأماكن العامة فضاء للتعبير السياسي وللمشاركة الديمقراطية، ولهذا نراه يندد عبر فنه بالنزعة الفردية السائدة في المجتمعات الحالية وبالليبرالية والتمدن المتوحش ولأنه إنسان حر، فهو يرفض أن يستغل من أي طرف كان».

الفنان بانكسي المعني بنضال الفلسطينيين، الذي شارك من خلال مشروع «سانتاس غيتو» برسومات تدعو للسلام على جدار العزل العنصري بالضفة الغربية، يروي هذه الحادثة في كتابه: «وول أند بيس» (دار نشر «ألترناتيف»): «وأنا أرسم على جدار غزة اقترب مني عجوز فلسطيني وقال لي: «أنت تزين الجدار»، فأجبته: «شكرا، هذا لطف منك.»..، فقاطعني مضيفا: «نحن لا نريد جدارا جميلا، نحن لا نريده أصلا».@@

الفنان الأميركي شيبارد فيري الذي عبر عام 2008 عن تأييده للرئيس أوباما من خلال مجموعة جداريات «هوب»، هو أيضا من أكبر المنددين بهيمنة عالم المال والبورصات، وقد عبر عن ذلك من خلال جدارية «ثي بروتستر»، وكان هو نفسه مشاركا في الحركة الاحتجاجية «أكوباي وول ستريت».

فنانو الشوارع تفاعلوا أيضا مع الأزمة الاقتصادية التي تعصف بأوروبا وكثير منهم رسم في الشوارع معاناة الناس. الفنانة اليونانية لويزا غويلياماكي رسمت جدارية «عذراء اليورو» لتعبر عن انهيار التراث الفني والثقافي في بلادها على إثر السياسات التقشفية، بينما الإسباني إيسيف أنجز «المقصلة» في وسط مدريد، التي تعبر عن حياة الإسبانيين الخانقة بسبب الأزمة.

أكثر ما يخشاه هؤلاء المبدعون وقوعهم في فخ المؤسسات الثقافية الرسمية لأنهم يؤمنون بأن المتاحف ودور العرض والغاليريهات هي بمثابة المقابر التي تقضي على فنهم على اعتبار أنه مستوحى من روح الأماكن والفضاءات المفتوحة. الفنان بانكسي نفسه عبر عن هذه الهواجس في شريط قصير من إخراجه بعنوان «اصنعوا الحائط»، عبر قصة شاب ذكي يفلح في إقناع خبراء سوق الفن بأنه فنان عبقري وينجح في بيع تحفه وتحقيق أرباح طائلة رغم أنها لا تحمل أية قيمة فنية.

الجديد اليوم هو أن المؤسسات الثقافية التي لم تكن تعترف بفن الشوارع، بل وتعتبره نشازا بالأمس، أصبحت اليوم تتسابق لعرض تحفه من قطع «التاغ» و«الغرافيتي» و«الملصقات» و«الجداريات» على اعتباره آخر صيحات الفن التشكيلي. ففي فرنسا وحدها وفي أقل من ثلاث سنوات فتحت عدة مؤسسات ثقافية أبوابها لفناني «ستريت آرت»: مركز «جورج بومبيدو»، متحف «لو غران باليه»، مؤسسة «بيار كاردان»، متحف «لابوست»، ومؤخرا فضاء لي باندوش، كلها نظمت معارض لفنانين فرنسيين وأجانب.

مسؤولو هذه المؤسسات أول من يؤكد على أهمية هذه الخطوة، تقول ماجدة دانيز الخبيرة والناقدة الفنية: «البعض يعتقد بأن فن الشوارع فن جديد، والحقيقة أنه قطع مشوارا مهما منذ بداياته في الأحياء الشعبية بنيويورك وشيكاغو منذ أربعين سنة، الآن حان الوقت لكي يتعرف العالم على تاريخه وتطوراته. صحيح أن بعض الفنانين ما زالوا يقاومون دخولهم سوق الفن، لكننا سنعطيهم الوقت الكافي والضمانات اللازمة التي تكفل لهم كامل حريتهم الإبداعية».

الرسميون هم أيضا انضموا إلى هذا الفريق المشجع، مساعد عمدة باريس للشؤون الثقافية برونو جوليار صرح مؤخرا على صفحات مجلة «لكسبرس»: «فن الشوارع ميزان حراري جيد لقياس الانتعاش الثقافي لمدينة ما.. في رأيي هو مجال يجب تطويره قبل أن يضيف. لقد أعطينا توصيات خاصة لعمال النظافة لكي لا يتعرضوا لبعض الجدران، حيث إنهم تلقوا تكوينا خاصا لكي يتمكنوا من التعرف على الرسومات الفنية التي يجب تركها». علما بأن بلدية باريس وحدها تقوم بمحو ما يزيد على 285 ألف متر مربع من رسومات «التاغ» العشوائية، وقد كلفتها هذه العمليات في السنوات الثلاث الأخيرة نحو 11.4 مليون يورو. عمدة الدائرة الثالثة عشرة جيروم كومي ذهب لأبعد من ذلك حيث إنه وضع عدة أحياء من بلديته تحت تصرف فنانين شباب بالتعاون مع «غاليري إتينرانس» الذي يهتم بهذا الفن، وهو ما نتج عنه ظهور 14 جدارية من بينها جدارية الفنان الأميركي أوبي، التي تمتد على علو خمسة عشر طابقا وكلها معروضة في إطار مزار سياحي يعرض لزوار هذه الأحياء.

المفارقات التي تميز هذا الفن كثيرة، فبينما ما زال معظم فنانيه ينشطون في سرية تامة خوفا من ملاحقات الشرطة، تقابلهم سوق الفن بأذرع مفتوحة. تحفهم باتت مطلوبة من طرف النجوم والمشاهير وأسعارها أصبحت تحطم أرقاما قياسية في مزادات الفن العالمية. مؤسسة «آرت برايس» سجلت ارتفاع قيمة منتجات «الستريت آرت» بنسبة 195 في المائة. أول الفنانين دخولا لسوق الفن كان الأميركي جان ميشال باسكيا الملقب بـ«سامو» والذي يحتل منذ سنوات قمة الصدارة، حيث بلغت إيرادات مبيعات تحفه حسب «آرت برايس» 79 مليون يورو بين 2011 و2012. يليه البريطاني بانكسي الذي يعد من أكثر الفنانين شهرة، صيته ذاع في ظرف سنوات قليلة بسرعة مذهلة: قيمة أعماله قفزت من 800 جنيه إسترليني عام 2005 إلى 500 ألف بعد سنتين ثم إلى نحو مليوني دولار في مزاد «سوذبيز» عام 2008، اليوم كل جداريات هذا الفنان محمية بختم خاص لا يمكن تقليده. الساحة الفنية تعج أيضا بكثير من الفرنسيين، أشهرهم الفنان الفرنسي بلاك لورا (واسمه الحقيقي كسيافي برو) الذي يمكن اقتناء أرخص قطعه بنحو خمسة آلاف يورو، والفنان كريستيان غيمي الملقب بـ«سي 215» الذي تتراوح قيمة أعماله ما بين خمسة آلاف يورو إلى 11 ألف يورو، وهي قد تصل إلى 16 ألف يورو بالنسبة للفنان زاف.

الأدهى أن فناني «الستريت آرت» يعترفون دون تردد بهذه الشيزوفرينيا التي باتت تميزهم، لكنهم يعترفون في نفس الوقت بقلة حيلتهم، يقول الفنان الفرنسي «سي 215» في تصريح لمجلة «غرافيتي آرت ماغازينس»: «نحن لسنا أبطالا، نحن كغيرنا من الناس، نحتاج إلى الأكل ولدينا فواتير يجب أن تدفع كل شهر، فكرت كثيرا ووصلت إلى استنتاج واحد: إذا أردت مواصلة فني لا بد أن أتعامل مع سوق الفن».

آخرون يعتبرون التعاون مع المؤسسات تطورا طبيعيا لنشاطهم، كما يصرح الفنان الأميركي الملقب بـ«جون وان»: «أمثل جيلا من الفنانين مضى شبابه يجول الشوارع ليزينها برسمه، اليوم أبلغ من العمر 48 سنة، والتطور الطبيعي لنشاطي هو داخل الورشة وليس في الشارع». وما يتفق عليه الكل هو أن دخول فن الشوارع سوق الفن قد جلب له ما كان ينقصه.