فؤاد الخطيب.. شاعر النهضة العربية

زاوج بين القديم المتوارث والجديد المبتكر وكتب الرواية الشعرية

الشاعر فؤاد الخطيب
TT

يُعد الشيخ فؤاد الخطيب الذي رحل عن الدنيا منذ 58 عاما رائدا من رواد الشعر العربي في العصر الحديث، فقد نهض بالشعر من التقليدية الموغلة في القيود الثقيلة من حيث الأساليب إلى آفاق رحبة من التجديد المنضبط في المضامين والصور، كما يعد فارسا من فرسان اللغة، وأصبح في الصف الأول من شعراء الإحياء في العصر الحديث، وقد تأثر بالشعراء الفحول في عصور الشعر العربي المزدهرة، كما تأثر بشعراء مدرسة الإحياء كالبارودي وشوقي وحافظ إبراهيم، وقد زاوج في شعره بين القديم المتوارث والجديد المبتكر مما يمكن أن يوصف بـ«شاعر المحافظة والتجديد معا».

كتب الخطيب المسرحية الشعرية، كما في رواية «فتح الأندلس» التي تعد راوية شعرية تمثيلية وطبعت في دمشق عام 1930 قبل الحرب العالمية الثانية.

وضمن اهتمامها بحفظ كتب ودواوين الريادة في الأدب العربي الحديث أنجزت «المجلة العربية» طباعة ديوان الشاعر لما يشكله من أهمية أدبية وتاريخية، كون الديوان لم يطبع إلا طبعة يتيمة عام 1959 وقد نفذت من المكتبات وأصبح الحصول عليها مستحيلا.

واعتبر الدكتور ظافر بن عبد الله الشهري في تقديمه للديوان في طبعته الثانية أن «صاحب الديوان الشاعر الشيخ فؤاد الخطيب، هو شاعر العرب الكبير كما لقبه صديقه الأديب محمد سرور الصبان» لافتا إلى أن «قيمة الديوان تظهر في كونه سجلا لكثير من الأحداث السياسية الرئيسة التي عاصرها، كما أنه مزيج بين الوصف والحكمة والحديث عن المملكة العربية السعودية. في ظل قادتها الذين عاصرهم، كما أن من المواضيع البارزة في شعره حضور قضية فلسطين التي كانت هاجسه كشاعر عربي يشعر بمأساة الشعب والأرض معا، بالإضافة إلى تسجيل كثير من الأحداث السياسية التي عصفت بالوطن العربي بعد سقوط الخلافة العثمانية».

وغطى الديوان الذي زادت صفحاته عن 600 صفحة مواضيع، في الوصف والحكمة، وفي الجزيرة وأبطالها، وفي سبيل فلسطين، وفي صدى الثورات العربية، وفي المجتمع وشؤونه، وفي الشكوى والعتاب، وفي الغزل واللهو، وفي المراثي بالإضافة إلى قطع من القصائد (وهو من الشعر ما كان من سبعة أو عشرة أبيات فما دون).

ويقول رياض الخطيب نجل الشاعر الراحل إن الديوان يمثل شعره كله، اللهم إلا قصائد قليلة لا تزال مفقودة، وكذلك رواية «فتح الأندلس»، وهي رواية شعرية تمثيلية طبعت في دمشق عام 1930 ومثلت في دمشق والقاهرة والقدس وعمان قبل الحرب العالمية الثانية مرات عدة، وهذا الشعر هو ثمرة خمسة وسبعين عاما قضاها المؤلف سجل خلالها آمال العرب وآلامهم، وكل الأحداث السياسية الرئيسة التي مرت بالأمة العربية خلال حياته فكانت سجلا حافلا لنصف قرن من الزمان كتب بشعر عربي جزل الأسلوب، بليغ العبارة، فصيح اللفظ.

وللخطيب - غير هذا الديوان - مؤلفات أخرى قليلة بعضها طبع في مستهل حياته وإبان اشتغاله بالتدريس ومخطوط واحد لم يطبع بعد سماه «نظرات في تاريخ الجاهلية وآدابها»، كما ألف كتابا عن قواعد اللغة العربية وطبعه في مدينة يافا بفلسطين أيام كان يدّرس اللغة العربية في الكلية الأرثوذكسية فيها، وكذلك ألف كتابين طبعهما في الخرطوم عاصمة السودان أيام أن كان يدّرس اللغة العربية في كلية «غوردون» فيها:

الأول: عن جغرافية بلاد العرب، والثاني، عن تاريخ الأدب العربي في شكل محاضرات متسلسلة.

وقد ألقى أثناء حياته عدة خطب ومحاضرات في الندوات الأدبية والمجامع العلمية، نشرت كلها في المجلات والجرائد إلى جانب كثير من المقالات التي نشرتها له تلك الجرائد والمجلات الأدبية. هذا بالإضافة إلى الكثير من الرسائل التي كان يتبادلها بصورة دائمة مع أصدقائه الأدنين أمثال: الشيخ محمد سرور الصبان والشيخ الطيب الساسي في الوطن السعودي ومع أديب دمشق وشاعرها الكبير خليل مردم بك ومع علامة دمشق ومؤرخها الشيخ عبد القادر المغربي في سوريا ومع الأديبين اللبنانيين إبراهيم حرب والصحافي النابه محمد العنان.

وهذه الرسائل والمقالات والمحاضرات، بالإضافة إلى ما ذكرته عنه كتب التاريخ والأدب كسياسي وشاعر وأديب وما نشر عنه في مراث شعرية ونثرية تصلح موضوعا لدراسة أدبية تكتب عنه أو كتاب يؤلف عن سيرته وشعره وأدبه.

أما مذكراته فموضوع كبير آخر، ولكنه يحتاج إلى مجهود جبار لإخراجه في صورة مذكرات مطبوعة إذ كتبت بشكل يوميات في مفكرات كثيرة فقد بعضها بحيث قطع تسلسلها في أماكن عدة وتحتاج إلى الكثير من الجمع والتنسيق والتبويب مع الشروح اللازمة وهي تظهر الكثير من الخفايا السياسية التي عاصرها وأتيح له بحكم مركزه الاطلاع عليها.

ولد الشيخ فؤاد الخطيب عام 1880 في قرية شحيم من أعمال جبل لبنان، وكان والده الشيخ حسن الخطيب رئيسا لمحكمة جبل لبنان، وهو ينتمي إلى أسرة «الخطيب» المعروفة في الجبل وكان لها مركز ديني مرموق أيام الخلافة العثمانية، فمن هذه العائلة كان قضاة المسلمين في جبل لبنان دائما، تلقى علومه الابتدائية في مدرسة طانيوس سعد بالشويفات وأتم دراسته الثانوية في كلية سوق الغرب ومنها انتقل إلى الجامعة الأميركية في بيروت حيث اشتهر فيها كشاعر ورياضي وكان من زملائه في الجامعة الدكاترة فيلب حتي وبندلي الجوزي وأنيس المقدسي.

وبعد أن أتم دراسته فيها عام 1904 بدأ نشاطه مشتركا في الجمعيات العربية السرية التي كانت تطالب الأتراك بإعطاء العرب حقهم في الحرية والاستقلال وحفظ كيانهم القومي ولغتهم العربية ومقاومة سياسية «التتريك» التي انتهجها حزب «تركيا الفتاة» وشكل مع السيد حقي العظم وكثيرين من أحرار العرب الناهضين يومذاك «حزب الاتحاد اللامركزي» وصار ينشر القصائد الوطنية الحماسية مستنهضا العرب لإحياء ماضيهم العريق والتمسك بلغة القرآن. ثم انتقل إلى مدينة يافا لتدريس اللغة العربية في الكلية الأرثوذكسية فيها، متابعا في الوقت نفسه رسالته الوطنية ولما بدأ التنكيل بأحرار العرب وحكم المجلس العرفي في مدينة «عالية» بلبنان عليه بالإعدام بأمر جمال باشا «السفاح» فر إلى مصر يتابع فيها جهوده ونشر قصائده ومقالاته. وفي هذه الفترة التي ابتدأت عام 1908 توطدت علاقاته بكبار شعراء العرب في القاهرة حينذاك أمثال إسماعيل صبري وأحمد شوقي وخليل مطران ولا سيما حافظ إبراهيم حيث قضيا سنتين يقطنان منزلا واحدا. وفي هذه الفترة أيضا طبع الجزء الأول من هذا الديوان كما مرّ، وجله قصائد قومية وحث لأمته على متابعة قضيتها الوطنية، حتى سافر إلى السودان واضطر - كما ذكر في الاعتذار الوارد في آخر الجزء الأول من الديوان - إلى اختصاره فجاء صغيرا مقتضبا بسبب سفره إلى الخرطوم مدرسا للغة العربية في كلية «غوردون» فيها حيث توطدت علاقته بكبار رجالاتها يومذاك السادة المهدي والميرغني ويوسف الهندي ومن تلاميذه فيها إسماعيل الأزهري رئيس وزراء السودان وعبيد عبد النور رئيس رابطة الخريجين فيها وكثيرون غيرهم.

ومن السودان انتقل إلى الحجاز حيث اتصل بالشريف حسين بن علي وعمل رئيسا لتحرير جريدة «القبلة» وهي الجريدة الرسمية للحجاز ثم عين وكيلا لوزارة الخارجية في حكومة «النهضة» 1916 حين أعلن الشريف حسين الثورة على الأتراك فوزيرا للخارجية، وكان يلهب الشعور القومي والحماسة الوطنية في النفوس بشعره وخطبه حتى لقب بـ«شاعر الثورة العربية» و«شاعر العرب» فهو من هذه الناحية رائد من رواد القومية العربية الأول وفي الرعيل الأول من مجاهديها وشعرائها الداعين إلى النهوض القومي والانبعاث الوطني.

وفي تلك الفترة من شبابه في الحجاز نظم أروع شعره القومي والسياسي وألف مع الشيخ محمد سرور الصبان وعمر عرب مدرسة للشعر الحماسي والقومي لم تقتصر على الحجاز بل انتشرت قصائدها في سائر الأقطار العربية. ومن ذلك الحين توطدت بينه وبين الشيخ محمد سرور الصبان الصداقة المتينة لم ينصرم لها حبل أو تنقطع آصرة منها حتى أدركته الوفاة وكانت الرسائل بينهما متصلة.

وكان بعد تأليف الحكومة العربية الهاشمية بدمشق برئاسة الملك فيصل الأول، معتمدا للحكومة الحجازية فيها حيث عاد بعد معركة ميسلون المشؤومة إلى مكة وزيرا للخارجية.

ولما استعاد الملك عبد العزيز آل سعود الحجاز ووحد البلاد انتقل إلى إمارة شرق الأردن مستشارا للأمير عبد الله عام 1926 ثم استقال من وظيفته تلك لخلاف في الرأي بينهما أواخر عام 1939 بعد نشوب الحرب العالمية الثانية واستقر في لبنان في «برج البراجنة» قرب بيروت معتزلا الحياة السياسية مخلدا إلى فترة من الراحة في زمن يسوده القلق منصرفا عما حوله إلى الشعر والأدب والدراسة حتى استدعاه الملك عبد العزيز عام 1945 إلى الرياض فمكث عنده مستشارا ثم انتقل إلى كابل وزيرا مفوضا للملك في أفغانستان فسفيرا فيها. وأمضى بها عشر سنوات حتى توفي 1957 إثر سكتة قلبية مفاجئة ونقل جثمانه إلى مسقط رأسه «شحيم لبنان» حيث دفن فيها.

وحملت سيرته الذاتية أن الشاعر الراحل كان عصبي المزاج مرهف الحس سريع التأثر، مملوءا بالحيوية والنشاط وسريع البديهة حاضر النكتة، ومحدثا لبقا حلو الإلقاء إذا سمعته يتكلم لم ترغب في ترك مجلسه لطلاوة حديثه وسعة اطلاعه وغزارة معلوماته. وكان كثير القراءة دائب المطالعة بل إن المطالعة كانت هوايته الوحيدة في الحياة فإذا لم يكن ينظم أو يكتب أو يؤلف فهو يقرأ ويطالع ولذا فقد كان واسع الثقافة غزير الاطلاع في العلوم الطبيعية وخاصة علم الفلك وإنك لتلمح ذلك في ثنايا شعره وبين أبيات قصائده، كما أنه كان واسع الاطلاع في الآداب الأوروبية عامة. وكان يحفظ الكثير من قصائد شكسبير «sonnets» وكان عظيم الإعجاب به وبشاعر الإغريق هومر، وقد طعم الشعر العربي بكثير من المعاني المقتبسة من الآداب الأجنبية فكان يضع الفكرة المبتكرة القيمة في أسلوب جزل وعبارة بليغة وكلمات فصيحة بحيث ترى الأسلوب والمعنى يسيران جنبا إلى جنب من حيث المتانة والقوة والجزالة، كما أن أسلوبه النثري كان قوي العبارة متين الأسلوب فكان كاتبا فحلا كما كان شاعرا فحلا ويتجلى ذلك خاصة في مخطوطه الذي لم يطبع بعد وعنوانه «نظرات في تاريخ الجاهلية وآدابها».