شهادات فنية بلندن على الماضي السوفياتي

العالم يكتشف الفنانين الروس الذين ظهروا في ثمانينات وتسعينات القرن الماضي

من المعرض
TT

تظهر يد وحيدة كشبح من قلب لوحة كانافا لتصبح بؤرة غامضة داخل العدم الذي يسيطر على اللوحة. وفي أعمال أخرى تظهر كيانات هلامية داخل إطار من فراغ على مساحة مصنوعة بتقنية «الووش» (الرسم بفرشاة على ورق مبلل) مع وجود عنصر رمزي من حبيبات الكانفا. ولا تغيب العناصر المعمارية عن الأعمال، لكن تظل للأشكال هيئة هلامية وسط حالة من التوتر في منطقة ما. هذه اللوحات السوداوية هي من أعمال جانيس أبفوتينس، التي تجذبنا وجوهها وأشكالها الشبحية المرسومة على قماش كانفا رقيق، تذكرنا بصور حقبة الاتحاد السوفياتي، بعالم هش مسكون بذاكرة جمعية من القمع والعذاب. وكثيرا ما تستخدم جانيس تقنيات «أفوتين» من «اعتدال» وجماليات الأبيض والأسود والضبابية ومحو حدود الأشياء المصبوغة بلمسة غموض. إنها تجيد اللعب على تشبيك العلاقات بين الصور المرسومة بتقنية التناقض.

جانيس واحدة من بين اثني عشر فنانا روسيا يعرضون أعمالهم في صالة «ساتشي» في معرض يحمل اسم «البهجة أكثر ما يميز الاتحاد السوفياتي» الذي يسلط الضوء على ظلال الفن الروسي المعاصر. فلطالما كان تاريخ الفن في موسكو وسانت بطرسبورغ يتألف من ثورات مضيئة وعصور مظلمة. اشتهرت الحداثة بنسختها الروسية بفضل قادة مثاليين ادعوا «الانتصار حتى على الشمس»، كما يقول ماليفتش وكورتشينيك. ومنذ نحو مائة عام، حاول الروس التجريبيون تغيير العالم. ولكن ما يسعى إليه هذا المعرض هو معرفة ما إذا كان الفن الروسي يشهد حاليا تطورا لا ينبغي علينا إغفاله ونحن بعد في بداية في بداية القرن.

هذا التطور يمكن ملاحظته في أعمال داشا فيرسي، فنانة أخرى من الفنانين الاثني عشر، فهي تصور السوفيات في قالب من الحكايات الخيالية. توضح قائلة: «في عقل فتاة شابة ناضجة تمتزج صور السوفيات مع رغبة لا واعية في الحب والخيالات الشهوانية». ويتجلى في لوحاتها والمقاطع المصورة والأداء والمنحوتات تطلع صادق نحو المدينة الفاضلة ومزيج ساذج بين الرغبة الجنسية السافرة وتعريف جديد يتضمن مفارقة خاصة بأدوار المرأة.

لقد تم خسارة جزء مهم من الثقافة خلال حقبة الاتحاد السوفياتي السابق، ومنها اعتياد الناس على الفن المعاصر. أصبح الفنانون إما مجرد عناصر بلا شعور داخل النظام أو «زعماء غير مرئيين» تحت الأرض. وبعد انهيار الطلائعيين، غابوا عن المشهد كحكام صادقين على المجتمع، وسرعان ما نسينا أن وجودهم ضروري. لهذا السبب بدأت كل من موسكو وسانت بطرسبورغ تعود إلى حب الفن والاستمتاع به مرة أخرى. ويعيد الناس اليوم اكتشاف الفنانين الروسيين الذي ظهروا في ثمانينات وتسعينات القرن الماضي أو يتعرفون عليهم للمرة الأولى. ومن هؤلاء إيليا كاباكوف وديميتري بريغوف وإيريك بولاتوف وأندريه موناستيتسكي. الآن فقط بدأت تلك الأعمال تعرف طريقها إلى الجناح الروسي في بينالي فينيسيا. لكن ما يزال الفن المهيمن في روسيا الجديدة هو فن التسويق الذي يتعاون فيه قادة سياسيون مع مجرمين. بعد مرور أكثر من عقدين على بداية البيرسترويكا، لا يبدو أن اقتسام الميزانيات واختلاس الأموال خلفية مناسبة للفن. لا يوجد حاليا أي معايير سليمة لتقييم الفن بعد ما تحولت المتاحف إلى أماكن لغسل الأموال وتم إغلاق صالات العرض التي افتتحت في فجر روسيا الجديدة.

ومع ذلك، نستطيع أن نقول إنها حقبة الفردية التي يستطيع فيها الفنانون تطوير ذوقهم الفني بشكل فردي. إنها حقبة الفنان المتفرد الجديد الذي تحرر فنه من قبضة اللاوعي الجمعي والقوالب الجامدة المعدة سابقا. إنها كذلك حقبة المتلقي الذي رفض صالات العرض السائدة ويبحث عن ضالته في عالم الفن. يقول جوشوا أوستريتسوف مؤسس مركز للفنون نجح فيما أخفقت فيه مراكز الفنون التابعة للدولة: «مع الأسف يريد كل من يملكون مقاليد الأمور ورأس المال الخاص المهتم بالفنون المعاصرة الاستمتاع بالمعارض من دون الالتزام بمساعدة الفنانين في الفترات الفاصلة بين هذه المشاريع. لدي اتصالات جيدة مع مسؤولي (نيو غافرنمنت). إنها التي كانت تقدم لي العقود الجديدة طوال تلك السنوات». وأضاف: «اختار فرع لندن من (نيو غافرنمنت) عرض أعمال ستة من اثني عشر فنانا يعرضون أعمالهم بانتظام في مركز (أوستريتسوف) للفنون في موسكو».

في جانب آخر من المعرض، توثق صور سيرجي فاسيليف للسجناء السوفيات، وهي صور التقطت بين عامي 1989 و1993، وتدل على روح صمود المتمردين في ظل ثقافة قمعية. لقد عمل فاسيليف كمصور فوتوغرافي لدى صحيفة في مدينة تشيليابينسك لمدة ثلاثين عاما. ومنذ عام 1948 بدأ زميله دانزيغ بلداييف في رسم مجموعة متنوعة من التصميمات التي يوشم بها جلود السجناء ووضعها في سجل. وتم نقش هذه الوشوم بدائية الصنع على الجلد بكعب الكتب أو البول أو الدم. وكانت تحمل رسائل مشفرة ضد النظام السوفياتي وعن جرائم السجناء الفردية. وشكلت الوشوم المبطنة بالرموز الموجهة ضد السلطة صيغها الخاصة، فمثلا الجمجمة تعني أقصى درجات الإجرام، والقط يعني أن حاملها لص وهكذا. عدم وجود أي وشم يعني أدنى درجات الإجرام وعدم القسوة. ويمكن أن تعني بعض الوشوم أنه لا يمكن المساس بالسجين.

وتتضمن هذه العملية ظاهرة فنية؛ فبعيدا عن كونها سجلا للوشوم، تعد صور فاسيليف سجلا إنسانيا للوجوه والأجساد. وهنا تكمن أهمية الفنانين الشباب، الذي يتسم فنهم بتعدد البؤر والتسامي والشاعرية والرومانسية والبعد السياسي. يقول دميتري أوزيرفوك: «إنه أكثر فن يتسم بالعالمية، لكنه في الوقت ذاته يمتد بجذوره في التربة الوطنية».