توظيف الرواية الشفوية في تدوين سير النساء

عبدالرحمن الشبيلي

TT

في المجتمعات الشرقية بخاصة، يستأثر الرجل بذكر ما يخلفه من مآثر اجتماعية أو ثقافية أو إنسانية خيرية، ويحظى من وسائل الإعلام بما يمجد مناقبه، ولا تزال الأقلام تعتم وعلى استحياء على شمائل النساء وخصالهن وأفضالهن، وعلى ما يبدعنه في الحياة من إنجازات ضمن ثقافة سائدة، تتجاهل جنس المرأة (جندرا).

ومن يطلع على كتاب «النساء في التراجم الإسلامية» لروث رودد (Ruth Roded) ترجمة د. عبد الله العسكر (دار «جداول» 2013)، وعلى كتاب «شاعرات من البادية» من تأليف عبد الله محمد أبو رداس وتقديم العلامة حمد الجاسر (دون تاريخ)، وعلى كتب التراجم والطبقات وأعلام النساء، وهي تزيد على مائتي كتاب موجودة في المكتبات العربية، يجد أن التراث القديم الإسلامي والعربي كان أكثر إنصافا للمرأة، حين سجل عبر التاريخ نماذج خلدت فضائل إنسانية نسائية في البذل والتضحية والإبداع الفكري، في حين تبدو ملامح العقوق في العصور المتأخرة وصولا إلى الحاضر، وبخاصة في هذه البلاد العربية، لسيدات أنكرن ذواتهن من أجل الإسهام في العمل التطوعي والخيري، وبرزن في العمل الإنساني والريادة فيه، وفي المجهود الاجتماعي على وجه العموم، ولعل الاستثناء في المجتمع السعودي، بل قد يكون الدليل على ما تقدم هو ذلك الكتاب الذي ألفته أستاذة التاريخ في جامعة الأميرة نورة د. دلال مخلد الحربي (إصدار دارة الملك عبد العزيز عام 1999م بمناسبة الذكرى المئوية)، وتناول سير نساء شهيرات في المجتمع السعودي عبر العصور المتأخرة، وهو كتاب تعمل المؤلفة حاليا على تحديث طباعته والتوسع في موضوعه، وقد أصدرت في هذه الأثناء كتابا جديدا عن الشخصية ذائعة الصيت في النخوة والشجاعة، غالية البقمية، المتوفاة نحو عام 1818م.

أما الكتاب الثاني فهو من تأليف أستاذة الأدب العربي في جامعة الملك سعود د. نورة الشملان بعنوان: «الأميرة نورة بنت عبد الرحمن الفيصل»، وقد صدر عام 2000م.

ومن المقالات التي تحدثت في صلب الموضوع، وانتقدت غياب الإفصاح لتسجيل تراجم صاحبات الفضل والنبل والإنجاز في مجتمعاتنا العربية، هو ما كتبته أستاذة التربية د. عزيزة المانع (صحيفة «عكاظ»، 26 / 4 / 2009 م) بعنوان «تراجم النساء»، وهو ما تناولته مجددا في عمودها اليومي في الجريدة نفسها هذا العام (28 أبريل «نيسان» 2013م).

ومن أبرز الخطوات التي أقدمت عليها الحكومة السعودية مؤخرا وشكلت تطورا مهما باتجاه إبراز أسماء النساء، تسمية جامعة البنات الوطنية باسم (أخت المؤسس الملك عبد العزيز) نورة التي كان يفاخر بها نسبا وبمآثرها حسبا، وهو ما فتح الباب لمزيد من الاعتراف بأفضال النساء من خلال تسميات كثيرة من شواهد التنمية بأسمائهن بعد أن تم رفع الحجب الاجتماعية عن ذكرهن.

لقد نقلت الروايات الشفوية غير المدونة أمثلة متناثرة عن تدبير تلك الأميرة، وعن مواقفها الحصيفة مع أخيها إبان فترة التأسيس، وتناقلت الروايات الشفوية - بالأخص - مساعدتها للمحتاجين وبذل الجاه في الشفاعة لإطلاق السجناء، حيث كانت النساء من أقارب هؤلاء المحتاجين يصلن إليها بسهولة ويسر، وفي ظل شح المادة المكتوبة عنها وعن غيرها، يظل تجميع الروايات الشفوية إحدى الوسائل المتاحة للتدوين.

مرة أخرى، لقد كان المجتمع في الماضي يبالغ في إخفاء دور المرأة في مجال العمل الخيري والتطوعي الإنساني، ليس فحسب من باب التعتيم على الأسماء الأنثوية كما أشرت، بل ربما من باب الحرص على نكران الذات، مما يدخل في توجه بعض الأسر إلى عدم المباهاة بما تقدمه من معروف، وبالتالي إغفال ما تقوم به النساء والرجال على حد سواء من مآثر وأعمال، وإن مما يضاف إلى ثقافة التعتيم تلك على الأسماء الأنثوية ما يلحظ من إخفاء أسماء المتزوجات وكذا المتوفيات عند كتابة أخبار الوفيات وفي إعلانات النعي والتعازي، فلا يكاد يذكر من تعريف للمرأة إلا أنها حرم فلان أو والدة فلان أو شقيقته أو كريمته وهكذا.

ترد هذه الخواطر، وجامعة الأميرة نورة بنت عبد الرحمن للبنات في الرياض تقيم هذه الندوة عن سيرة واحدة من فضليات هذا المجتمع، استحقت التكريم بإطلاق اسمها على هذا الصرح العلمي الكبير، بعد أن كرمها المؤسس الراحل بالذكر الطيب الذي ترسخ في أذهان الأجيال من الآباء والأجداد، وبين الأيدي بحث كتبته الدكتورة مها بنت علي آل خشيل عن توظيف الرواية الشفوية في تدوين سيرتها، في ظل نقص المعلومات المكتوبة عنها.

إن من المعروف أن المصدرين المكتوبين الوحيدين السابق ذكرهما اللذين صدرا عن سيرتها - من تأليف د. نورة الشملان ود. دلال مخلد الحربي - قد اعتمدا إلى حد كبير على المصادر الشفوية في الأسرة المالكة والقريبات منها، في جهد مشكور تأخر الوصول إليه، لكنه استدرك ما يمكن استدراكه قبل وفاة البعض من كبار السن، فاستطاعت الباحثتان أن تقوما بالحد الأدنى الضروري من التوثيق لتدوين سيرتها، بهدف تعريف المجتمع بها، وما كانتا تعلمان حينها أن المجتمع السعودي سيكون على موعد مع رفع اسمها على هذا الصرح العلمي العملاق.

لكن المشكلة التي واجهت الباحثتين لم تكن تنحصر فحسب مع نورة بنت عبد الرحمن، بل مع العشرات من سيدات المجتمع من أمثال الأمهات اللواتي أشارت د. دلال الحربي إلى بعض أسمائهن، والمئات اللواتي لم يذكرن ممن تركن آثارا عطرة ومآثر باقية في شتى الحقول، وكان التكتم الذي تحدثنا عنه من قبل والتقاليد المتوارثة قد فعلت فعلها تجاههن في إخفاء الكثير من المعلومات التي لا يمكن الحصول عليها بعد فوات الأوان.

لقد وفرت الباحثتان - كما أشرت - عناء التواصل مع المصادر الشفوية المحلية الممكنة لكتابة سيرة الأميرة نورة عند إعداد الكتابين، لكنني أجد هذه الندوة مناسبة لطرح فكرة تخصيص قاعدة معلومات لتوثيق السير النسائية، بالتعاون بين دارة الملك عبد العزيز وقسم التاريخ في هذه الجامعة، وتشمل الأسماء السعودية والنساء المسلمات والعربيات عبر العصور، وبخاصة ممن ظهرن في هذه الجزيرة العربية ممن لم تكتمل كتابة سيرهن.

أما بالنسبة للبحث الذي بين أيدينا من إعداد د. مها آل خشيل، فإنه يعد بمثابة خارطة طريق لتتبع المصادر، بما فيها الشعر بشطريه، الفصيح والعامي، والنتف المتناثرة من الإشارات المكتوبة في مختلف المراجع المطبوعة، وإن من يتتبع المحاولات التي تمت للأخذ بالمصادر الشفوية - بمثل ما قام به الحرس الوطني في سنوات سابقة، وما تقوم به دارة الملك عبد العزيز ومكتبة الملك عبد العزيز العامة - يجد أن تلك المحاولات أفادت كثيرا في بناء التراجم والسير، وشكلت مراجع قيمة للباحثين والمؤلفين.

ولقد سبقت لمحدثكم تجربة خصبة في هذا الجانب في البرنامج التلفزيوني (شريط الذكريات) الذي سجل قبل ثلاثة عقود مع عدد من شخصيات كان لها دور في توحيد المملكة العربية السعودية وتأسيسها، حيث استفاد الكثير من الباحثين من معلومات وردت في تلك المقابلات، وبخاصة بعد تحويلها إلى كتب، ومن بينها على سبيل المثال مقابلة مع الأمير مساعد بن عبد الرحمن الأخ قبل الأصغر للملك عبد العزيز والأميرة نورة.

يلمس المرء في مثل هذه البرامج التوثيقية كيف يمكن للإعلام أن يكون في خدمة التاريخ، وكيف يتسنى للمقابلة الإذاعية أو الصحافية أو التلفزيونية أن توثق المعلومة وتحفظها وتؤكدها، وأن تشكل مصدرا غنيا للباحثين والمؤرخين بالاستناد إليها والانتفاع بها، شريطة أن تخدم المقابلة بما تستحقه من التحضير والمراجعة والاستعداد.

لقد حث د. عبد العزيز الخويطر - وهو الذي كان له السبق في تضمين سيرته الذاتية توثيقا لأدق ما مر به في حياته من تفاصيل - في الكتاب القادرين على اتباع نهجه في تدوين كل ما يمر في حياتهم، دقيقه وجليله، ففي حين قد يظن - في زمن ما - أن شيئا من تلك المعلومات غير ذي أهمية، يثبت الواقع في زمن لاحق أن أهميته تكون مختلفة.

إنها دعوة للتأمل في أهمية الاستعانة بالرواية الشفوية التي نغفلها كثيرا، فهي مصدر في غاية الثراء لكتابة التاريخ، وبخاصة في حال التعامل مع تراجم النساء عندما تعجز البدائل الأخرى عن تدوين سيرهن وتدوينها.

* محاضرة ألقيت في ندوة حول الموضوع في جامعة الأميرة نورة بنت عبد الرحمن آل سعود بالرياض،