أبعد من شارع المتنبي

فاضل السلطاني

TT

في الخامس في مارس (آذار) 2007، كما هو معروف، فجروا شارع المتنبي في بغداد. احترقت أقدم مكتبة (العصرية)، وتهدم أقدم مقهى ثقافي(الشابندر)، وقتل أشهر بائع كتب (محمد يحياوي). منذ تلك اللحظة، ارتفع شارع المتنبي من مجرد شارع، رغم عراقته وجلال ما يحمل، إلى رمز تجاوز محليته إلى مدن العالم الكبرى من لندن إلى سان فرانسيسكو، يتم تذكره سنويا ، كما نتذكر تلك الأيام المظلمة في تاريخ البشرية، حين تعاد القصة نفسها قبل هولاكو وبعده، قبل محاكم التفتيش وبعدها، وقبل محرقة الكتب الألمانية وبعدها.

وإذا كنا، عراقيين وعربا، قد نسينا هذا القصة بعد حين لكثرة قصصنا المفجعة، فإن أكثر من 150 شاعرا وكاتبا وفنانا غربيا لم ينسوا ذلك، بل شكلوا ما يشبه التحالف الثقافي، ليس فقط لإحياء ذكرى مأساة شارع المتنبي تحت شعار «حتى لا ننسى»، وإنما العمل أيضا، بقوة الكلمات نفسها، على منع تكرار ذلك في أي مكان من العالم، وفي أي زمان من الأزمنة.

يوم الثلاثاء الماضي، جاء الشاعر الأميركي بو بوسوليل إلى العاصمة البريطانية حاملا مشروعه الثقافي «شارع المتنبي يبدأ هنا». كان شيئا مؤثرا يجعل الدمع يطفر من عينيك وأنت تسمعه يتحدث بحرقة قد نفتقدها نحن، وكأن مأساة هذا الشارع مأساته الشخصية، وكأن الحدث قد جرى بالأمس فقط. ما الذي يدفع شاعرا أميركيا لفعل ما لم نفعله نحن؟ يقول بوسوليل إن ما يربط القارئ وبائع الكتب في شارع المتنبي، وما يربط بائع الكتب والقارئ في سان فرانسيسكو هو شيء بسيط ومباشر: إننا كلنا نتقاسم الإيمان نفسه، الإيمان بأن الكتب هي حاملة الذكريات، والأحلام، والأفكار. وهو يشعر أن هناك حاجة ماسة لإبقاء هذا الحدث التراجيدي حيا في ضمائرنا لأنه يحمل دلالات تاريخية وثقافية، سواء في أميركا أو في العراق، أو أي مكان في العالم.

ويريد هذا الشاعر الغريب من الكتاب والفنانين أن يستجيبوا لهذا الحدث، وأن يفكروا فيما أبعد منه، في أولئك الناس القتلى، شيعة وسنة، الذين وحدتهم المعرفة، وكانوا يشعرون بحماية التاريخ والفكر في ذلك الشارع، وأن يفكروا في الوقت نفسه في أولئك القتلة الذين استهدفوا الأفكار المبثوثة في كل كتاب. وفعلا، نجح بوسوليل على مدى سنوات في جمع لوحات كثيرة مكرسة لهذا الحدث الجليل من فنانين أميركيين خصوصا، ظل يطارد بعضهم طويلا كما يقول، ووصلته عشرات القصائد والشهادات التي جمعها في كتاب حمل اسم المشروع نفسه «شارع المتنبي يبدأ هنا» لشعراء معروفين، منهم، على سبيل المثال، الشاعرة الأميركية الكبيرة أدريان ريتش، الفائزة بـ«ميدالية المؤسسة الوطنية للكتاب للإسهام المتميز في الأدب الأميركي»، التي رحلت العالم الماضي عن 83 سنة. ومن الشهادات المؤثرة، شهادة أنتوني شديد، المولود في أوكلاهوما عام 1963، الذي قتل في سوريا عام 2012. أثناء تغطيته أحداث الثورة السورية. وكان شديد قد زار شارع المتنبي عام 2003. والتقى آنذاك أحد أشهر بائعي الكتب، أبا عن جد، وهو محمد حياوي، الذي قتل أثناء تفجير الشارع.

مرة أخرى، إنها ليست قصة شارع في بغداد. هي قصتنا جميعا، وهي تعيد إنتاج نفسها بأشكال مختلفة، في هذا الشارع أو ذاك. وما يريده مشروع «شارع المتنبي يبدأ هنا»، أن نطرح عنا صمتنا ونحفز ذاكرتنا السريعة النسيان، وأن نردم المسافة بين «الشوارع الثقافية» في العالم، وخاصة الشوارع العربية، في معركتها ضد كارهي الكلمات، ومانعي الكتب وحارقيها أينما وجدوا في هذا الجزء البائس من المعمورة.