السعودية: مواطن الشعراء تثير الجدل مجددا

التشكيك بشأن حاتم الطائي يفتح السجال بين المحققين

TT

رغم أن الجدل بشأن موطن الشاعر حاتم الطائي، كان قديما وكامنا، فإنه عاد مجددا ليطرح في الصحف اليومية والمنتديات الثقافية السعودية، ومعه جدل آخر بشأن مواطن عدد من الشعراء الذين عرفتهم الجزيرة العربية، مثل امرؤ القيس، وعبد يغوث الحارثي، وطرفة بن العبد، وعنترة بن شداد، والأعشى، وجرير، والفرزدق، وذي الرمة، وغيرهم من الشعراء الذين حدد البلدانيون مواضع سكناهم ومرابعهم في كثير من المؤلفات القديمة والحديثة.

«الشرق الأوسط» استطلعت آراء عدد من المختصين والباحثين والمؤرخين حول هذه القضية، وحقيقة المنهج الذي يستند إليه المشككون.

* د. العسكر: الشك والأسطورة

* بداية يشدد الدكتور عبد الله العسكر عضو مجلس الشورى وأستاذ التاريخ بجامعة الملك سعود على أن قضية التشكيك في آدابنا العربية الكلاسيكية وفي شخصيات عربية قضية قديمة قيلت فيها نظريات متعددة. والشك المؤدي إلى اليقين نظرية عربية قديمة قال بها الجاحظ والنظّام قبل ديكارت وكارلو نلليلو ومرغليوث وغيرهم. ثم تبناها بعض العلماء العرب في العصر الحديث كطه حسين. لكن التشكيك في الشعر العربي القديم انتقل إلى التشكيك في وجود شخصيات عربية مثل حاتم الطائي الذي اشتهر بالكرم الواسع أو التشكيك في وجود عنترة بن شداد الذي اشتهر بالفروسية والشجاعة والشعر.

وزاد العسكر بالقول: «ومذهبي أن الشك يؤدي إلى اليقين. وإذا لم يؤدِ الشك إلى اليقين فيصبح الشك ضربا من العبث. ذلك أن الشك من أجل الشك فقط لا يخدم قضية علمية».

وبشأن الجدل الحالي عن شخصية حاتم الطائي، يقول العسكر: «أرى أننا إذا لم نستطع أن نثبت أن شخصية حاتم الطائي أو عنترة بن شداد شخصيات وهمية أو أسطورية، فالأصح أن نقبل بوجودهما بناء على المعطيات المتوفرة. لا أرى أن التهالك والاستمرار في إنكار شخصيات عربية فذة دون الإتيان ببديل ذي فائدة للبحث العلمي. بل أزيد أن شخصيات عربية قديمة أقبلها حتى ولو كانت من الأساطير. فالأساطير الآن مقبولة في ميدان العلم. وهي مهمة لوجدان الأمة وهي تشكل مخزنا وذاكرة لتاريخ الأمة، بصرف النظر عن تفاصيل حياة تلك الشخصيات».

هل غادر الشعراء من متردم

أم هل عرفت الدار بعد توهم

ويتساءل الدكتور العسكر: ما الفائدة في التشكيك في هذه الشخصية وفي شعره ما دام أن لدينا من القرائن ما يثبت وجوده. وما دام أن المتشككين لا يأتون بما يدحض هذه المعطيات. والشيء نفسه يُقال عن شخصية عربية قديمة دار حولها كثير من الجدل العقيم وهي شخصية حاتم الطائي، وهو شاعر عربي جاهلي (? - 605 م) من قبيلة طيئ. واسمه: حاتم بن عبد الله بن سعد بن الحشرج بن امرئ القيس بن عدي بن أخزم بن أبي أخزم. ويكنى بأبي سفانة وأبي عد. وهو فارس جواد يضرب المثل بجوده، ويُعتبر أشهر العرب بالكرم والشهامة، بل ويُعد مضرب المثل في الجود والكرم. ومات في سفوح جبل في بلاد طيئ. وتوجد بقايا أطلال قصره وقبره وموقدته الشهيرة في بلدة توارن في حائل. ومن شعره هذا البيت الذي يُعبر عن فلسفة الكرم عنده:

وقائلة أهلكت بالجود مالنا

ونفسك حتى ضر نفسك جودها

فقلت دعيني إنما تلك عادتي

لكل كريم عادة يستعيدها.

وخلص العسكر إلى القول: «لا أرى فائدة كبيرة من التشكيك في رموز عالية في تراثنا العربي. خصوصا أن المتشككين في شخصية عنترة وحاتم لا يأتون بما يعزز شكوكهم. ومهما يكن من أمر سيظل عنترة وحاتم رمزين شامخين في ميدان الجود والمروءة والكرم والفروسية والشاعرية. نفتخر بهما كما يفتخر الإنجليز بشاعرهم الكبير شكسبير».

* د. أحمد الطامي: استثمار لا ازدراء

* من جانبه يوضح الدكتور أحمد الطامي أستاذ الأدب الحديث بجامعة القصيم ووكيل الجامعة للشؤون التعليمية بأن لكل أمة رموزها التاريخية المتجذرة في ذاكرتها الشعبية والثقافية والتاريخية. وهؤلاء الرموز يتحولون في الأمم المتحضرة إلى قوى ملهمة تدفع بالأمة إلى الأمام وإلى استثمار مجالات الرموز لخلق أمة عظيمة تستلهم من رموزها التاريخية.

ويتناول الطامي في هذا السياق حاتم الطائي، الذي كان الشخصية الأكثر في إثارة الجدل والشكوك حولها، موضحا بالقول: «يكاد يكون حاتم الطائي من الرموز التاريخية الموغلة في القدم التي تكاد تكون الرمز الأبرز في خُلق كريم يعد من أبرز القيم التي يعتز بها العرب وهو الكرم. لقد احتفى الوجدان العربي عبر القرون بحاتم الطائي بهذه القيمة السلوكية وبرمزها حاتم الطائي حتى تحول هذا الرمز إلى وجود أسطوري بصفته نموذجا لا يمكن لبشر أن يتجاوزه».

وأضاف في هذا السياق: «أما قضية وجوده الواقعي - التاريخي فقضية ليست جديدة ولا خاصة بشخصية حاتم. كل الرموز التاريخية في عصر ما قبل الإسلام واجهت سؤال الشك والانتحال، ولم يكن الشعر والشعراء هم وحدهم من تعرض لهذا الاتهام أو الموقف التشكيكي. ومن الخطأ أن نتعرض لهذا السؤال انطلاقا من فرضية وجوده التاريخي أو عدمه، إذ إن قصر التشكيك في زاوية ضيقة تفترض وجوده أو عدم وجوده خطأ منهجي في مواجهة قضية التشكيك في شخصية حاتم الطائي».

وأكد الطامي في هذا السياق على ضرورة التخلص من ظاهرة ازدرائنا لرموزنا التاريخية، وفي الوقت نفسه ضرورة توظيف أولئك الرموز توظيفا إيجابيا لترسيخ القيم العظيمة في مجتمعنا العربي، تلك القيم التي اشتهر بها أولئك الرموز. وبالتأكيد لو لم تكن تلك القيم عظيمة ومؤثرة لما تحولت سيرتهم إلى أسطورة واشتهرت وتغلغلت في وجدان الإنسان العربي.

* الضراب: تصحيح الأخطاء

* واعتبر الباحث عبد الله الضراب، وهو أحد المهتمين في التشكيك في أسماء مواضع ومنازل الشعراء وغيرها، وله تجربة شخصية في تحقيق بعض المواضع والمنازل ومنها موطن وقبر حاتم الطائي، أن المحاولات الأولى لتحديد المواضع المذكورة في الشعر العربي القديم ومعاجم البلدان مقارنة بالتسميات الحديثة للمواضع بدأت بجهود الشيخ محمد بن عبد الله بن بليهد في كتابه «صحيح الأخبار عما في بلاد العرب من آثار» الواقع في خمسة أجزاء.

وأضاف الضراب: «قام الشيخ حمد الجاسر باستلام الزمام بعد ابن بليهد حيث خدم هو الآخر هذا العلم أيما خدمة وأعانه على ذلك لفيف من العلماء مثل العبودي في القصيم والجنيدل في عالية نجد وعبد الله بن خميس في اليمامة، وكان من أهداف أولئك تحقيق أسماء المواضع الواردة في الشعر العربي وعلى رأسها ما ورد في المعلقات وهي مواضع اختلفت أسماء أغلبها وبدأت تحمل أسماء مغايرة لأسمائها الأصلية مثل الدحول وحومل وتوضح.. وغيرها».

وأشار الباحث الضراب إلى أن هذه النهضة واكبها نشر الكثير من الكتب التي لم تكن متوافرة قبلا مثل كتاب: «بلاد العرب» للأصفهاني، وهو كتاب أعان على تحقيق المواضع وتصحيح وتصويب الكثير من الأخطاء التي وقع فيها بعض المؤلفين فضلا عن العوام وذلك لما حواه من ربط الأسماء بالأبعاد بالميل والأوصاف الطبيعية «الطبوغرافية» للمواقع وكل ذلك أسهم فيما وصف بالتشكيك. وعن تجربته في تحقيق الأماكن، يقول: ساهمت بعض الكتب إضافة إلى استخدام المسح الميداني والقيام بالزيارات للمواقع المطلوب تحقيقها وتطبيق الأبعاد عليها والسمت والأوصاف الطبيعية مثل جبل الغراء وهو جبل في رأسه بياض من ذلك اكتسب التسمية، مع تجربة أخرى من خلال تحققي من مواطن وقبر حاتم الطائي في تنغة أو تنعة وقد وصفت بأنها في بطن حائل وأنها مطلع الشمس عن جبال أجا.. وكل ذلك لا يتوفر في القبر المتعارف على أنه قبر حاتم الطائي في توارن.

* حاتم الطائي ليس أسطورة

* د. سعد بن عبد العزيز الراشد

* تابعت بعض ما أثير حول حاتم الطائي الشاعر العربي والشخصية ذائعة الصيت بين قبيلة طيئ، ومكانته الاجتماعية والثقافية في قلب جزيرة العرب. وأستغرب من يقول إن حاتم الطائي شخصية أسطورية وإنه لا توجد شواهد حضارية في منطقة حائل تنسب لقبيلة طيئ.

والمتتبع للمصادر التاريخية والأدبية يجد أن قبيلة طيئ يمتد انتشارها في نطاق جغرافي تقاطعت عليه أهم الحضارات في قلب الجزيرة العربية، وهناك الكثير من المواقع والمناهل لا تزال تعرف بأسمائها القديمة كانت ولا تزال مساكن لبطون من القبائل الطائية. ولا تخلو كتب الجغرافيين المسلمين من معلومات قيمة عن الجغرافيا التاريخية لمنطقة حائل وصلة قبائل طيئ بها.

أما حاتم الطائي وشهرته فليس حديث الساعة، ومن يشكك في تاريخه ومصداقية أفعاله فهو ذريعة للنيل كذلك من مشاهير الشعراء العرب في عصر ما قبل الإسلام، الذي يحتفظ بالذاكرة التاريخية والجغرافية لجزيرة العرب. والشعر ديوان العرب وهو من المصادر الرئيسة في توثيق التاريخ وتحقيق المعالم التاريخية والمواقع التاريخية وحركة تنقلات القبائل العربية واستقرارها في أنحاء الجزيرة العربية.

والكرم الحاتمي امتد في عروق قبائل العرب في حائل وفي غيرها، ولا يمكن أن ننفي مكان سكنى حاتم الطائي (توارن) وصحة المكان المسمى موقدة حاتم القريبة منها، ما لم تثبت الدراسات المستقبلية غير ذلك.

يقول حاتم الطائي:

أوْقد فإن الليلَ ليل قَرُ

والريح يا موقدُ ريحٌ صرٌ

عسى يرى نارك من يمر

إنْ جلبْتَ ضيفا فأنت حر

فهذه المعاني النبيلة لا يمكن التشكيك بها والنيل منها، وقد استمرت هذه السمة الجميلة في ثقافة المجتمع في منطقة حائل وفي أنحاء كثيرة من جزيرة العرب التي تشكلت في حاضرنا الملموس في وطن الخير المملكة العربية السعودية. وحري أن يبقى حاتم الطائي في الذاكرة التاريخية، وكذلك بقية الشعراء العرب، نستمد من شعرهم المعرفة بالتاريخ واللغة، ولا غرو أن نحيي ذكرهم بإطلاق أسمائهم على معالم ثقافية وتربوية وحضارية. لقد وجه المشككون في مصداقية منازل حاتم الطائي، نداء للهيئة العامة للسياحة والآثار للتأكد من صحة المعلومة، والواقع أن الاستكشافات الأثرية وأعمال التنقيب والبحوث الأثرية المستمرة في منطقة حائل وفي المناطق الأخرى تخرج لنا كل يوم حقائق ومعلومات جديدة عن البعد الحضاري للمملكة العربية السعودية كما أنه وفقا لرؤيتها في الخطة الاستراتيجية لتكوين الهيئة هو إبراز التراث الثقافي وعادات وتقاليد الشعب السعودي الفريدة، وما يتميز به من كرم وضيافة وزيادة المعرفة بعناصر التراث الثقافي، والمواطن بالدرجة الأولى شريك أساسي وكذلك مؤسسات الدولة ومنها وزارة الثقافة والإعلام.