حوار مع الشاعر الأعشى بعد 14 قرنا من رحيله

«صناجة العرب» يعود مجددا إلى «سوق عكاظ»

TT

عاد الشاعر العربي ميمون بن قيس الملقب بـ«الأعشى» بعد أكثر من أربعة عشر قرنا من رحيله، إلى الواجهة، ليكون الشخصية الشعرية والمسرحية والنقدية لمهرجان سوق عكاظ الثقافي والتراثي في دورته السنوية للعام الحالي، التي ستنطلق في شهر سبتمبر (أيلول) المقبل.

وقد كان هذا الشاعر الذي عرفته الجزيرة العربية أحد ألمع الوجوه الشعرية في سوق عكاظ التاريخي قبل وفاته عام 629م الموافق للسنة السابعة من الهجرة.

«الشرق الأوسط» زارت قرية الشاعر الكبير «منفوحة» التي أضحت اليوم من أحياء العاصمة السعودية الرياض، ووقفت على أنحاء القرية وما تركه شاعرها من آثار وما خلف من ذكريات، لكن لم تجد أثرا لها، حيث اندثرت، فقبره أقيم عليه منزل شعبي، في حين اختفت البئر التي كان يرتوي منها مع ندمائه بعد ليلة خمرية، كما أن مربط ناقته التي ساح بها في أرجاء الأرض لا وجود له البتة.

وكان الشاعر الكبير قد عاش بين وديان «منفوحة» الخصبة وأجوائها لطيفة المناخ، التي اشتهرت بزروعها ونخيلها.. وعندما شب الشاعر بدأ سياحته الطويلة في الأرض بما يمكن وصفه بـ«سندباد العصر الجاهلي»، وكان سلاحه لسانه الذي أخاف الملوك والسادة والعظماء، وجعلهم يتسابقون لكسب رضاه تجنبا لهجائه لهم. لكن الشاعر كان أقرب إلى المديح منه إلى الهجاء، بل جعل مديحه سبيلا حتى إلى تزويج البنات بالتشبيب بهن. وارتحل الأعشى في سبيل بلوغ هذا الهدف إلى كل الأمم المتحضرة في وقته.. وقد زار اليمن، ونجران، وعدن، وعرّج على الحجاز، وانتقل إلى المشرق والبحرين والعراق، ووصل إلى بلاد الفرس، وزار الشام، وتاخم الروم، كما كانت الحبشة وحضارتها محطة لشاعر منفوحة الذي أصبح في وقته من ألمع الشعراء، وشخصية صاخبة ضاجة في ديوان الشعر العربي.

في الحوار الافتراضي التالي، يتحدث الأعشى بصوت أعياه الزمن.. بعد 1400 عام من رحيله، مبتدئا التعريف ببطاقته الشخصية قائلا: «اسمي ميمون بن قيس بن جندل، من قبيلة بكر بن وائل، ولدت في منفوحة القريبة من حجر اليمامة (الرياض حاليا)، ولا أعرف تاريخ ميلادي، لكن وفاتي كانت عام 629 من الميلاد».

* لماذا لقبت بالأعشى؟

- هذا اللقب جاء لضعف في بصري. لقد حدث ذلك في شبابي. ألم تسمع قصيدتي في هريرة محبوبتي، التي قلت فيها:

ودِّعْ هررةَ إن الرکبَ مرتحلُ

وهل تطقُ وداعا أها الرجلُ

وفيها:

أن رأت رجلا أعشى أضر به

ريب المنون ودهر مفند خبل

* وكيف اشتهرت بلقب «صناجة العرب»؟

- لقد أحرجتني بسؤالك، لكن ما دام أن النقاد القدماء أكبروا في شاعريتي مع أنهم أخذوا علي أشياء كثيرة خصوصا في سلوكي الإباحي، فأقول: إن «صناجة العرب» لقب اشتهرت به لكثرة مراودتي مجالس الشرب والطرب، ولما في شعري من موسيقى الغزل، والتغني بالمرأة والخمرة والمتعة.

* في أي من طبقات الشعراء تصنف نفسك؟

- يقول النقاد إنني من شعراء المدح، والحكمة، والوصف، وهذا لا يجافي الحقيقة، لكنني مضطر للقول - وآمل أن لا يعتبره البعض تضخيما للذات أو ما تسمونه اليوم «النرجسية» - إني قلت الشعر في قضايا عصري جميعها: الحرب، والصراع بين القبائل، والمفاخرة، والمصاولة في الميادين التقليدية. وفي هذا المقام، أشكر «موسوعة الشعر العربي» على تناولها شخصيتي، خصوصا من اختارها وشرحها وقدم لها مطاع الصفدي، وإيليا حاوي، والمشرف على الموسوعة الدكتور خليل حاوي، وقالوا فيها إن شاعريتي جامعة شاملة، تحيط بأوصاف الجزالة، كما تقدر على إعادة خلق المنظر والمعاناة الذاتية. لقد حولت الموضوعات المتوارثة إلى لوحات فنية جديدة، كما حاولت أن أقاوم تقاليد الشعر الجاهلي، فابتكرت لنفسي مناجاة وجدتها في شعر الخمر والغزل، وهناك تفتقت قريحتي عن كثير من المبتكرات التي تعتبر منطلقا لفن الشعر الخمري عند العرب، كما سوف يتألف عند الأخطل والوليد بن يزيد، ثم عند زعيمه الأكبر أبي نواس فيما بعد.

* النقاد المتأخرون قالوا عنك إنك سعيت إلى إعطاء نزواتك الحسية أبعد أفق لها، ففجرت شخصية الفنان الجاهلي.. ما تقول؟

- نعم، هذا ما كنت أسعى إليه بهدف منح حرية المعاناة لشخصية الفنان الجاهلي، دون رقابة من القيم العامة.. وبصراحة، لقد حمتني فحولتي وقوة شخصيتي من انتقاد أسلوبي في الإقبال على ملذات الليل، واقتناص المتعة من كل امرأة: المصون والعذراء والعقيلة، والشاردة، والعربية الحرة، والأمة الأعجمية.

انظر إلى مطالع قصائدي.. إنها صريحة دائما في غزلها وفي طريقة الموقف الشعري والفني الذي أحرص عليه بصفتي شاعرا يتابعه باستمرار من دون أي تحفظ.

* لماذا انتهجت أسلوب التكسب بشعرك.. حتى قيل إنك أول من فعلها؟

- نعم، أنا أول شاعر نهج هذا الأسلوب، وكان دافعي الحصول على المال حتى أغطي به نفقات مجوني مع رفاق الليل، وهذا الأسلوب لم يمنع من أن أكون شاعرا استطاع أن يخطو بالشعر الجاهلي خطوات كثيرة، من حيث الصياغة، وفنون البلاغة والتشبيه التصويري، وإدخال ما يشبه القصة والحوار، وتفنني في أوصاف المرأة، ومعاقرة الخمر في مجالسها المختلفة، ومع توابعها من المغنين والعازفين.

* ترحلت - يا أبا بصير - كثيرا وخالطت أمما متحضرة كثيرة، مما نوع ثقافتك وصقل بديهيتك التصويرية، وأمدك بغنى وتنوع في الوصف والألفاظ الجديدة، لكن عقليتك وموقفك الفكري العام لم يتأثرا بالمضمون الثقافي والعقائدي لهذه الأمم، كيف حدث ذلك؟

- نعم، كنت رحالة بين أطراف الجزيرة العربية، جوالة بين ملوك الغساسنة والمناذرة واليمن والحبشة، واختلطت بالفرس والروم والأحباش وغيرهم من الشعوب المتاخمة للأرض العربية، لقد وفرت لي هذه الرحلات الاحتكاك بأجواء نصرانية والحضارات شبه الوثنية المتقدمة، وعلى الرغم من ذلك لم تبدُ لدي أي نزعة عقائدية تنعكس على تأملات معينة في الحياة والإنسان، ولعل السبب أنني كنت مشغولا عما وراء الحياة، بالتمتع بظواهر الحياة الحسية المباشرة ببساطة وتلقائية غريبة، ليست فيها سذاجة البدوي أسير الرمل والناقة والشظف.

* ما قصة قدومك على الرسول محمد صلى الله عليه وسلم لتعلن إسلامك الذي لم يتم؟

- قدمت إلى الحجاز لمقابلة الرسول، لكن صناديد قريش الذين عارضوا النبوة وكانوا في هدنة مع محمد وقفوا لي في الطريق وحاولوا إثنائي عن مقابلته لقناعتهم بأن إعلان إسلامي سيجعل أكثر العرب يعلنون إسلامهم، وأغروني بالمال وطلبوا مني العودة إلى منفوحة لأنهم كانوا في هدنة مع محمد، كما أنهم قالوا إن محمدا يحرم الخمر، وكانت لدي صبابة تكفيني لمدة عام في مخمرتي (مهراس)، وعند عودتي إلى منفوحة ووصولي إلى مشارفها، سقطت من فوق الناقة ودق عنقي فمت ولم أحظ بإعلان إسلامي، مع أن النية كانت موجودة.. وأحب أن أذكر في هذا السياق أنني نظمت قصيدة في مدح الرسول لعلها وصلته وأعتبرها عربون إسلامي الذي لم يحدث، أتذكر منها هذه الأبيات:

ألا أيهذا السائلي: أين يممت

فإن لها في أهل يثرب موعدا

نبي يرى ما لا ترون وذكره

أغار لعمري في البلاد وأنجدا

له صدقات ما تُغب ونائل

وليس عطاءُ اليوم مانعه غدا

أجِدَّكَ لم تسمع وصاة محمد

نبي الإله حين أوصى وأشهدا

* اشتهرت بأن مديحك كان سبيلا حتى إلى تزويج البنات بالتشبيب بهن، هل تتذكر مواقف لك في هذا الجانب؟

- كنت متوجها كعادتي السنوية إلى سوق عكاظ، فإذا رجل يتلاقاني ويأخذ الخطام، فقلت: من هذا الذي غلبنا على خطامنا؟ قال: المحلّق. قلت: شريف كريم، ثم سلمت إليه، فأناخه، ونحر لي ناقته، وكشط لي عن سنامها وكبدها، ثم سقاني. وأحاطت بي بناته يغمزنني ويمسحنني، فقلت: ما هذه الجواري حولي؟ قال: بنات أخيك وهنّ ثمان شريدتهم قليلة، وخرجت من عنده ولم أقل فيه شيئا، فلما وافيت سوق عكاظ إذا أنا بسرحة قد اجتمع الناس عليها، وأخذت أنشدهم:

لعمري لقد لاحت عيون كثيرة

إلى ضوء نار في يفاع تحرق

تشب لمقرورين يصطليانها

وبات على النار الندى والمحلق

يداك يدا صدق فكف مفيدة

وأخرى إذا ما ظن بالزاد تنفق

ولما انتهيت من إنشاد القصيدة تقدم المحلق وسلم علي، فقلت له مرحبا يا سيدي، بسيد قومه، وناديت: يا معشر العرب، هل فيكم مذكار يزوج ابنه إلى الشريف الكريم؟ فما قام من مقعده وفيهن مخطوبة إلا وقد زوجها.

* عبرت ببلاغة عن الظلم وخضوع الشعب البائس عندما تحدثت عن الملوك الذين التقيت بهم، وخصوصا النعمان الذي مات في السجن.. كيف حدث ذلك؟

- صروف الدهر كانت تنتابني وتأتيني كل يوم بجديد، فلي منها في الصباح ما لم يكن عندي في المساء، لذلك قلت أبياتا تناولت فيها موضوع التأمل في الحياة والموت، وشددت فيها على أن الإنسان لن يخلد، حتى الملوك يأتي عليهم الموت، ولعلك اطلعت على أبياتي في ساسا، من ملوك الفرس ومؤسس الدولة الساسانية، ومورق من ملوك الروم، وكسرى شاهنشاه، وعاديا ولد الشاعر السموأل صاحب القصر الأبلق المشهور، إضافة إلى الملك النعمان الذي التقيته يوم نعماه يفرق عطاياه وهباته على من يلتقي بهم، ويقسم أمر الناس بين السعادة والشقاء، فهذا نهار مشرق، وذلك ليل مظلم، وهم ساكتون (أقصد الشعب) والموت يتكلم، وقد قلت في ذلك أبياتا في التعبير عن الظلم وخضوع الشعب البائس، منها:

ويقسم أمر الناس يوما وليلة

وهم ساكتون والمنية تنطق

فذاك وما أنجى من الموت ربه

بساباط حتى مات وهو محزرق

لقد كان مصير النعمان أن يموت في السجن حيث حبسه كسرى.

* ألا تعلم أنك ستكون الشخصية المسرحية في سوق عكاظ لهذا العام الذي سينطلق في شهر سبتمبر المقبل؟ كما ستخصص ندوات شعرية عنك في السوق؟

- لم أعلم إلا منك، وأشكر المنظمين لهذا السوق الذي أعادني إلى الواجهة من جديد، وأنا سعيد أن الناس هنا لم ينسوني رغم مضي أكثر من أربعة عشر قرنا على رحيلي. وإذا كان لي عتب فأنا متضايق جدا من نسيان معالمي في قريتي منفوحة، من قبر ومسكن والبئر ومربط الناقة، كما أن قريتي لم تعد هي القرية ذات الجو العليل، لقد حاصرتها المصانع ومحطات معالجة مياه الصرف الصحي، وأسواق المواشي.

* آثار الشاعر الأعشى في «منفوحة».. اندثرت!

* قدم الباحث راشد بن محمد بن عساكر، دراسة متكاملة عن منفوحة حيث ولد وعاش ومات شاعرها الأعشى، وكانت في السابق قرية لها استقلاليتها وكيانها، وتاريخها الخاص، وتحولت اليوم إلى حي صغير من أحياء مدينة الرياض الكبرى، التي كانت تسمى قديما (حجر اليمامة)، وقد تزامنت منفوحة معها في النشأة والتأسيس.

واعتبر الباحث عساكر الذي صحب «الشرق الأوسط» في جولة على منفوحة ومعالمها، أن البلدة ذاعت شهرتها قديما ببروز أشهر أعلامها الأعشى، وراوية العرب المشهور في العصر العباسي أحمد بن أبي رياش القيسي، كما كانت لمنفوحة حوادث تاريخية مع المدينة الواقعة شمالها الرياض، ومنافسة وحروب طاحنة، عبر فترات زمنية مختلفة، كما كان لها دور سياسي وعسكري واقتصادي أدته بالوقوف جنبا إلى جنب الدولة السعودية الأولى، وعدت أول بلدة من البلاد النجدية تدخل في طاعة الدولة الجديدة وتقف معها وتساندها.

وحدد الباحث ابن عساكر معالم منفوحة وتاريخها وأعلامها في كتابه القيم «منفوحة في عهد الدولة السعودية الأولى والثانية»، وضمنه معلومات وصورا في غاية الأهمية عن المواقع التاريخية، ومنها ما يتعلق بالأعشى؛ لعل أبرزها قصر الأعشى، وبئر «الخضرمة» التي تقع شمال القصر، و«مهراس» التي يقع بقربها منزل الأعشى، و«القاع» المكان الذي مات فيه الشاعر بعد سقوطه من فوق ناقته، ودرنا التي بها معصرة للخمر تعود للشاعر، وقال فيها:

فقلت للشرب في درنا وقد ثملوا شيموا وكيف يشيم الشارب الثمل

وقد أقيمت في هذه المناطق، خصوصا درنا، مبان سكنية أخفت معالم تعود للأعشى، خصوصا قصره وقبره وبئره التي كان يشرب منها مع الندماء بعد ليلة خمرية، وكانت هذه المعالم إلى وقت قريب ماثلة للعيان ولم تطلها معاول التغيير، وقد وقف عليها الدكتور عبد الوهاب عزام أول مدير لجامعة الملك سعود وكان قبلها يشغل منصب سفير بلاده مصر لدى السعودية، وسجل عزام مشاهداته أثناء زيارته منفوحة قبل 66 عاما وضمنها كتابه الخاص برحلاته، وقد حدد عزام قصر الأعشى الذي أزيل قبل 45 عاما وأقيمت عليه مشروعات سكنية.

وزار مؤخرا الأمير سلطان بن سلمان رئيس الهيئة العامة للسياحة والآثار، بصحبة الباحث راشد بن عساكر، منفوحة ووقف على معالمها وآثارها، وأبدى اهتمامه بما يتعلق بالآثار هناك وإمكانية صيانتها، خصوصا ما يتعلق بالأعشى، التي كانت قبل أربعة عقود ماثلة للعيان.