الاستثمار في الثقافة.. تحدي الدول الناشئة

قد يكون بقليل من الذكاء والتخطيط أنجع الحلول للنهوض بالاقتصاد

مركز بومبيدو بباريس من أبرز الامثلة على الاستثمار الثقافي
TT

على الرغم من أن المعادلة التي توازي بين الاقتصاد والثقافة تبقى صعبة، فإن مجرد الحديث عن «الاستثمار» في قطاع الثقافة قد يصيب ذوي الذهنيات المحافظة بصدمة شديدة، ويجعلهم يشعرون بالفزع والخوف من التنازلات التي يمكن أن تقدم على حساب حرية الإبداع، كما أن الفجوة بين منطق المثقف ومنطق المستثمر لا تزال عميقة، فبينما يفكر الأول في الترويج للعلوم والمعرفة والفنون دون انتظار مقابل، لا يهم الثاني سوى تحقيق المكاسب المادية.

لكن السنوات الأخيرة حملت لنا كثيرا من رياح التغيير، وظهرت آراء جديدة أصبحت تدعم فكرة أن الاستثمار في القطاع الثقافي قد يكون، بقليل من الذكاء والتخطيط، أنجع الحلول للنهوض بالاقتصاد والخروج به من الأزمة. مثل هذه القناعات تعززت بعد ظهور دراسات كثيرة ربطت بين زخم الحركة الثقافية في بلد ما وانتعاشه الاقتصادي، ليس فقط ما يخص الصناعات الثقافية الرائجة في أميركا وأوروبا كصناعة الأفلام والموسيقى والكتب، لكن أيضا ما يخص التراث الشعبي، والمعالم الأثرية، والبنى التحتية الثقافية كالمسارح، والمتاحف، والمكتبات ودور العرض.

* العوامل الخارجية الإيجابية

* في حوار نشر بصحيفة «لوموند»، صرحت خبيرة الاقتصاد فرنسواز بن حمو بما يلي: «الثقافة هي المجال الوحيد الذي يكذب النظرية الاقتصادية المعروفة بـ(المنفعة الهامشية المتضائلة) (مارجينال أوتوليتي)، فكلما استهلك الشخص وحدة جديدة من أي بضاعة أو سلعة، ازدادت درجة إرضائه إلى أن يبلغ (الإشباع الكلي) فيتوقف استهلاكه ولن يفيده أن تكون له سيارتان أو عشرة كيلوغرامات من اللحم، فهو سيتوقف عن قيادة السيارة حين يصل إلى مكان ما ويتوقف عن أكل اللحم حين يشبع. هذه النظرية الاقتصادية المعروفة تطبق على كل أنواع (السلع) ماعدا ما يتعلق بالمجال الثقافي، فكلما استهلكنا الثقافة، زادت رغبتنا في مزيد». فرنسواز بن حمو لا تتردد في مقارنة مستهلك الثقافة بالمدمن على التدخين الذي لا يصل لحالة إشباع كلي؛ «بل إن إدمانه يزيد يوما بعد يوم (بغض النظر عن الآثار السلبية على الصحة)، فمن يتعود منذ صغره على المطالعة، فسيقرأ طول حياته، ومن يُولع بالفن السابع، فسيتابع إنتاجات السينما كلما استطاع.. ولهذا فإننا نقول بأن نظرية المنفعة الهامشية تكون متضائلة مع كل السلع ومتزايدة فقط مع الصناعات الثقافية».

عدة مؤسسات علمية حاولت تقديم البرهان بالتقييم الكمي لهذه الآثار: الغرفة الإيطالية للتجارة (مونزا إي بريانزا) التابعة لمنطقة لمبارديا كشفت عام 2012 من خلال دراسة علمية جادة أنجزها خبراء «معهد الإنسات» نظير «معهد الإحصاء لينسي» الفرنسي أن رعاية المعالم الأثرية قد تصبح استثمارا مربحا، فـ(برج إيفل) مثلا يساوي ما قيمته 464 مليار يورو وهو ما يعادل 1 على 15 من الدخل القومي لفرنسا، علما بأن هذا التقييم لا يأخذ في الاعتبار القيمة «المادية» بل قيمة ما يسمى «بعلامته التجارية» أو بمعنى آخر «ثقله الاقتصادي» أي صورته الخارجية وسمعته التي تسمح باستقطاب أعداد السياح، وما يصرفه هؤلاء أثناء زيارتهم من أكل وشرب وزيارات ومواصلات ومشتريات، وأعداد العمال الذي يتم تشغيلهم في البرج ومحيطه مباشرة أو بواسطة شركات خارجية، علاوة على العوامل الإيجابية غير المباشرة التي قد تنتج عن هذه الزيارة، كالإقبال مثلا على تعلم اللغة، أو الشغف بالمأكولات الفرنسية أو حث الأهل والمعارف على زيارة فرنسا وهو ما يسمى في الاقتصاد «العوامل الخارجية الإيجابية» أو «بوسيتيف إكستيرناليتيز».

وهي ليست الدراسة الوحيدة.. دراسة أخرى لوكالة «تيرا» المتخصصة في تطوير المشاريع الثقافية، ضمت 74 مدينة أوروبية، أظهرت أنه إذا كان متوسط ما تصرفه كل مدينة على النشاطات الثقافية يبلغ نسبة 0.7 في المائة من الدخل القومي عن كل ساكن، فإن عائد هذا الاستثمار في النهاية يصل لنسبة 9 في المائة من الدخل القومي عن كل ساكن، لأن المدينة التي تتمتع بانتعاش قطاعها الثقافي تحث سكانها على الاستقرار فيها والأجانب على زيارتها وتشجع على الاستهلاك، وهو مثلا حال مدينة بيلباو الإسبانية التي مرت بركود اقتصادي شديد إلى أن تم افتتاح متحف «كوكينغام بيلباو» الذي ساعد على خلق أكثر من 45 ألف فرصة عمل جديدة في الفترة الممتدة بين 1997 و2007. لكن الآثار الإيجابية قد تكون «نوعية» أكثر منها «كمية» لا سيما ما يتعلق منها «بالانطباع الجيد» الذي تتركه في الأذهان كل المدن التي تعيش حالة من الانتعاش الثقافي. مدينة ليفربول مثلا استفادت كثيرا - حسب دراسة لوزارة الثقافة البريطانية - من استضافتها فعاليات «ليفربول مدينة الثقافة الأوروبية» عام 2008، حيث شاهد أحداثها نحو 3 ملايين شخص على موقع «يوتيوب».

تكتب بولين لابورت، الخبيرة في مكتب استشارات «آرت آند فينانس»: «الأزمان المقبلة ستشهد منافسة شديدة بين المدن الكبيرة لاستقطاب السياح والمستثمرين والأدمغة. الاقتصاد بالطبع يبقى مهما، لكن الانتعاش الثقافي سيكون الفاصل الذي سيميز بعضها عن بعضه».. كثير من هذه المدن الكبيرة تابعة لمجموعة الدول الناشئة. الصين مثلا تدعم بصفة خاصة صناعاتها الثقافية، حيث كشف وزير ثقافتها كاي يو على صفحات جريدة «شاينا ديلي» الناطقة بالإنجليزية أن الصناعات الثقافية ستمثل عام 2016 ما يعادل 420 مليار دولار، أي 5 في المائة من الناتج القومي الخام، في الوقت الذي مثلت فيه عام 2010 نسبة 2 في المائة من الدخل القومي. وهي كلها مبادرات أسس لها مؤتمر الحزب الشيوعي السابع عشر في اجتماع كوادره في أكتوبر (تشرين الأول) 2011 في إطار ما سُمي بـ«مخطط إصلاح الصناعة الثقافية» الأول من نوعه في تاريخ الصين. وقد تم منذ 2011 لغاية اليوم افتتاح نحو 395 متحفا جديدا، مع الإشارة لرغبة الصين الواضحة في جعل مدينة شانغهاي «القبلة الثقافية الجديدة في آسيا»، لذا فهي تحظى بحصة الأسد من المشاريع الثقافية، فإضافة لمعرض شانغهاي الدولي، سيتم افتتاح أكثر من 20 متحفا جديدا وتنظيم أكثر من تظاهرة ثقافية قبل نهاية عام 2016.

الإمارات العربية المتحدة انطلقت هي الأخرى منذ سنوات في عدة مشاريع ثقافية، أهمها مشروع المنطقة الثقافية في جزيرة السعيديات بإمارة أبوظبي، الذي يضم افتتاح 3 متاحف دولية «جوجينهايم أبوظبي»، الذي سيكون الأكبر عالميا (51 ألف متر مربع)، و«اللوفر أبوظبي» (25 آلاف متر مربع)، ومتحف «الشيخ زايد».. وكلها مشاريع كلفت الإمارة نحو 27 مليار دولار. إضافة لـ«معرض دبي الفني» و«معرض دبي الدولي للأفلام»، وتظاهرات أخرى أصبحت محطات مهمة في عالم الثقافة والفنون. تكتب الباحثة المختصة جوديث هوي بن حمو في صفحات مجلة «ليزيكو» الاقتصادية: «لا شك أن المشاريع الثقافية الضخمة التي تحضر لها الإمارات العربية ستمنحها مكانة خاصة بوصفها وجهة رائدة على المستوى الثقافي والفني إقليميا ودوليا، لكن يجب أن لا يغيب عنا أنها - في الوقت نفسه الذي تمثل فيه استثمارا مضمونا - ستجلب لها عوائد اقتصادية كبيرة ومستثمرين وسياحا، فالهند مثلا التي تقع على بعد ساعتين من دبي ستعرف في الخمس عشرة سنة المقبلة ظهور أكثر من 300 ألف شخص من ذوي الدخل الجيد، هؤلاء بالتأكيد سياح أو مستثمرون محتملون لدبي في المستقبل.

* الدول الغربية.. تستثمر في القديم

* مبادرات الدول ذات «التقليد الثقافي» للاستثمار في قطاعها الثقافي تبقى مختلفة تماما عن خطط الدول الناشئة.. فالدول الغربية تملك التراث الثقافي والمعماري والبنى التحتية اللازمة، العواصم الكبيرة كباريس، ولندن، ونيويورك، وواشنطن، وطوكيو احتضنت لوحدها عام 2011 ما يساوي 70 في المائة من العروض الأكثر زيارة في العالم، كما أن معظم المتاحف والغاليريهات الكبيرة توجد بأوروبا وأميركا الشمالية.

تكتب الباحثة بولين غايا لابورت: «معظم المؤسسات الثقافية لهذه الدول قد شاخت، فمتوسط عمر المتاحف في أوروبا يصل إلى 95 سنة و92 سنة في أميركا. لهذا، فإن خطة هذه الدول للاستثمار في قطاعها الثقافي مختلفة، وهي غالبا ما تلجأ لترميم مؤسساتها العتيقة، 45 مليون يورو مثلا أنفقتها فرنسا لإعادة ترميم متحف بيكاسو، و165 مليونا لإعادة تحويل مخازن السيارات القديمة لمراكز ثقافية وسياحية جديدة في جزيرة سوغان بضاحية باريس». الدول الغربية تلجأ أيضا لتصدير خبرتها في هذا المجال وحتى إعارة تراثها بمقابل، كما فعل متحف اللوفر مقابل مليار يورو وكذلك متحف جوجينهايم وهرميتاج. دراسة عن مركز بومبيدو الذي فتح فرعا جديدا في مدينة ميتز بشمال فرنسا أظهرت أن نشاط التجار وأصحاب المطاعم قد زاد بنحو 40 في المائة بعد افتتاح المركز الثقافي الجديد. أما دول غربية أخرى، فهي توكل مهمة البحث عن الاستثمارات الثقافية لجهات مختصة؛ كندا مثلا ومقاطعتها الفرانكفونية الكيبيك أوجدت ما يسمى «فون كابتال كولتور كيبيك»، وهو عبارة عن صندوق استثمار رأسماله محدد بمائة مليون 100 دولار، تشارك فيه مؤسسات مختلفة مقابل استعادة أموالها إضافة للأرباح بعد مضي ثماني سنوات. أما منطقة كاتالونا وعاصمتها برشلونة فهي تملك ما يسمى «غيرسك كابيتال فوند فور كولتورال بروجيكت» وهي هيئة تهتم بدراسة واختيار المشاريع الثقافية الجيدة التي تهم المستثمرين وتضمن لهم عوائد مادية، تماما كما يوجد بألمانيا مركز «أوروبيان سنتر فور كرياتيف إيكينومي» الذي يقوم بالبحث عن ممولين للمشاريع الثقافية الجديدة.