مرزوق بن تنباك: يجب أن نتعامل مع الحقائق تعاملا علميا

أستاذ النقد الأدبي في جامعة الملك سعود يقول إنه يكتب ولا يفكر في ردود الأفعال

مرزوق بن تنباك
TT

يعتبر الدكتور مرزوق بن صنيتان بن تنباك، أحد أبرز أساتذة النقد الأدبي في السعودية، ولمع اسمه على الساحة الثقافية الاجتماعية كأبرز المنافحين عن اللغة العربية من منظور فكري لا مهني، وتجاوزت طروحاته في هذا المجال حدود وطنه إلى العالم العربي وخصوصا عندما أصدر كتابه الشهير «الفصحى ونظرية الفكر العامي»، وبالإضافة إلى مؤلفاته الكثيرة ومقالاته ومحاضراته المتعددة التي اتسمت بالطرح الجريء والنقد الهادف، كاشفا عن حقائق ظلت مغيبة كان الحديث عنها بمثابة النزول في المحرم وغير المألوف وتشكيك في المسلمات.

«الشرق الأوسط» التقت الدكتور مرزوق بن صنيتان بن تنباك، الباحث والأكاديمي والأديب السعودي وعضو في هيئة التدريس بقسم اللغة العربية - كلية الآداب، جامعة الملك سعود، وأجرت معه الحوار التالي:

* متى أدركت فيما كتبت أنك تجاوزت كل محظور؟

- من يكتب عن رؤية معرفية وإيمان بما يكتب لا يفكر في ردود الأفعال، ولا يخشى التجاوز فيما تؤيد الأدلة والقرائن، والأحداث والمتاعب نسبية عندي وعند غيري.

* هناك حقائق غائبة في كل الاتجاهات.. هل أجريت إحصائية ضمن دائرة اهتمامك عن عدد هذه الحقائق الغائبة؟ وهل تنوي إعلانها كما أعلنت عما اعتبرته حقيقتين غائبتين وهما وأد البنات، وصلاة الجماعة؟

- غياب الحقائق أو حضورها ليس هو القضية، القضية أن نتعامل مع الحقائق عند حضورها تعاملا علميا.. يحترم المعلومة التي تكتشف الحقيقة. أما وأد البنات والإلزام بصلاة الجماعة فهما مثالان لما نتلقاه من مسلمات لا نناقش صحتها ولا نستشكل وجودها، وإذا بحثنا عن حقيقتها كان الجدل والاختلاف، وما أكثر ما يغيب عنا وإن كان ماثلا بين أيدينا.

* وأد البنات

* كان هناك اعتقاد سائد أن «وأد البنات» ظاهرة تفشت في المجتمع العربي الجاهلي.. لكنك طرحت رأيا مخالفا لذلك الاعتقاد هل من إيضاح أكثر في هذه المسالة؟

- وأد البنات نقل إلينا على أنه حقيقة واستقبلناه على أنه مسلمة لا شك فيها، وأنا كنت أرى ما يراه الناس، وقد درست الأدب في الجامعة أكثر من ثلاثين عاما، ولم يخطر في بالي أن لهذه المسلمة مدخلا علميا، وقد أشرت في بعض مؤلفاتي إلى قضية الوأد على أنها حقيقة. أما كيف تنبهت لذلك فقد كنت أبحث عن السبب الذي جعل العرب يدفنون البنات وهن أحياء، وكان الاستشكال عندي لماذا لم يقتلوهن بالطرق المعهودة للقتل، وهنا عثرت على الغائب من الحقائق الذي أشرت إليه في سؤالك. فكانت فرحة الاكتشاف للحقيقة التي غيبها التراث مئات السنين هي ما جعلني أخرج كتابي للناس، وفيه فصلت الحجج وأقمت الدليل على أنه لا يوجد حالة واحدة ولم تؤد بنت واحدة، وأن العرب لم يفعلوا ذلك. أما الدفن للأولاد أي الوأد الذي أشار إليه القرآن الكريم، فهو لا يخص البنت دون الابن ولا يخص العرب دون غيرهم من الأمم القديمة، والطريقة التي ذكرها القرآن الكريم ونهى عنها هي ما كانت تفعله النساء في كل حضارات العالم حتى اليوم مع اختلاف الوسائل، ذاك يحدث حين يولد ولد ذكر أو أنثى من علاقة غير شرعية فيدفن حال خروجه من بطن أمه، وقد أثبت بالوثائق وأتيت بالأدلة على هذه العادة الاجتماعية التي لا تخص العرب بل هي في جميع الشعوب حتى العصر الحديث، وكل ذلك مفصل في كتاب «الوأد عند العرب بين الوهم والحقيقة».

* على ذكر وأد البنات، ماذا يشابهها من ظواهر في عصرنا هذا تخص الإناث؟

- يشابهها في الوقت الحاضر الوأد المعنوي الذي لا يخفى على أحد، ولا أظن أنني أحتاج إلى دليل على ما يحدث للمرأة في العالم العربي الإسلامي من وأد معنوي ظاهر في بعض البيئات

* الخيال بمفهومه العام متى يكون جاذبا؟ هل يتحقق ذلك عندما يتمرد على عالم الحس أو على حدود اللفظ أو عندما يحيط بالواقع؟

- الخيال هو احتمال الممكن مستهديا بالواقع متجاوزا الحس إلى التصور لما يبعثه الإمكان فيما يمكن إحداثه على أرض الواقع متذرعا بالإقناع المتخيل لما يحدث بين المتخيل والخيال، ولولا الخيال لما تمتع الناس بما تشاهده وتعيشه من اختراعات العصر.

* ولا أرى فاعلا في الناس يشبهه / ولا أحاشي من الأقوام من أحد..

من في نظرك «النعمان» الذي ينطبق عليه قول النابغة في عصرنا الحاضر؟

- هذا في ظني - والله أعلم - أنه بيروقراطي عنيد متمرس في بيروقراطيته وفيما تحت يديه، يفعل ما يشاء كيف ما يشاء ومتى شاء، ولهذا وصفه البيت بأنه فاعل في الناس في الماضي مثلما يفعل البيروقراطي فيهم هذه الأيام.

* متى يفقد الكاتب عنجهيته ويحني هامته ويخلع سيفه ويكسر قلمه؟

- عندما يكتب بقلم من الأغراض وسيف من مجموع المصالح وعنجهية خاصة ذاك الكاتب لا يصمد فيفقد ذاته قبل آلته وينحني لريح الرغبات فتهوي به إلى النسيان.

* الغائب والمغيب

* عندما تمتزج النزعة الوجدانية الذاتية بالنزعة العامة عند الشاعر أو الكاتب أو القاص وكل من يقدم عملا إنسانيا فيه إبداع ماذا نتوقع أن يحدث؟

- عندئذ ستجد شيئا مختلفا، وسيحدث ما يسعى إليه المبدع ويقرأه المتلقي ويحسن فيه الظن ويكون كل ذلك مركبا جميلا يخلق شيئا جديدا يرضاه الناس ويقبله الحس المرهف والذوق السليم.

* ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم / بهن فلول من قراع الكتائب

بيت من أبلغ المديح بالشجاعة قاله النابغة في الغسانيين بأرض الشام قبل 1450 عاما.. لمن توجهه في زمننا هذا؟

- كفانا الله وإياك والعرب والمسلمين من الفلول وقراع الكتائب، فقد أعلنا من المحيط إلى الخليج أن السلام خيار استراتيجي، فمالنا ومال الكتائب والمصائب، وقرع الطبول ومشاهدة الفلول. السلام خيار استراتيجي وما أجمل هذا الخيار والمتنبي يقول وهو على غير حق فيما قال:

يرى الجبناء أن الجبن حزم / وتلك خديعة الطبع اللئيم.

* كيف يمكن للإنسان أن يغنم كل لحظه في حياته في إسعاد نفسه وسط هذه الغابة من الأفاعي والأقارب التي تنهش في الإنسان نهشا؟

- السعادة مثل الأمن ومثل الخوف والنسبية في كل ذلك هي المقياس الصالح للبحث عنها. ألم تسمع قول شيخك أبي الطيب المتنبي (أدام الله ظله) حين قال:

وما الخوف إلا ما تخوفه الفتى / ولا الأمن إلا ما يراه الفتى أمنا

فقد نرى السعادة في أحد هذين الخيارين الضدين ويراها آخرون في غيرهما.

* ماذا ينقص مسرح الحياة المليء بالهموم والمتناقضات ما بين مد وجزر وفرح وترح وغنى وفقر..؟

- هذا المسرح المملوء في حراك الحياة ومتناقضاتها التي تجعل خشبة المسرح متحركة بالأضداد التي أشرت إليها. وأن الضد يظهر حسنه الضد، والحياة بلا أضداد راكدة متعبة وإن شئت فجرب.

أما ما ينقصها فهو الممثل البارع الذي أبطأ ظهوره على خشبة مسرح العرب حتى الآن.

* كيف تقيم معارض الكتاب التي أقيمت في الرياض خلال السنوات الماضية؟ وماذا ينقصها؟

- تؤدي أهدافا متفقا عليها سلفا وتقدم ثقافة علمية واجتماعية لا سيما بعد أن صار فيها رد السلام والتحية خطيئة يعاقب مجترحوها لارتكابها.

* كيف نضع حدا لثقافة التشكيك والتوجس والخوف من التغيير والتجديد؟

- إذا نظرت إلى المستقبل وجعلت الماضي وراءك ستضع حدا للخوف والتوجس وأخواتهما وبنات عمهما الأقربين.

* هل لمست أن العقول صغرت في زمننا هذا وأن الكثير منها غيب، لماذا ترجع ذلك؟

- ألا تعرف أن فريقا من المسلمين ينتظرون الغائب منذ ألف وثلاثمائة عام ويبعث انتظاره أملا ويجدد رجاء، وفريقا آخر يجعلون الغائب والمغيب حجتهم على الآخرين ويرون وجود العقل معضلة وإدراكه خطرا حتى يستمر الجدل عن الغائب والمغيب وكلاهما سواء.

* تملك كل الأسلحة ولديك استعداد لخوض معارك على مختلف الجبهات الأدبية والفقهية، ما المعركة التي ترى أنك لا تحسن خوضها؟

- لا أحسن خوض المعارك ولا أريد ذلك، ورأيي أعرضه وموقفي أدافع عنه بآليات العقل والمنطق والحجة التي أعتمدها، قبل أن أقتحم ما لا أحسنه، فالرأي وإعمال المنطق يكفيك عن خوض المعارك. ولا تنس أن آخر اختراعاتنا وبطولاتنا هي «أم المعارك». التي بقيت أما أرملة بلا زوج ولا ولد ولا ذكر حسن.

* لماذا لم يجرؤ أحد على نقد المتنبي حتى بعد رحيله بمئات السنين؟ وما سر هذه الحصانة عند الشاعر رغم تصاغره ونفاقه ونرجسيته؟

- المتنبي له من اسمه نصيب، والعبقرية لا تهزم والتفرد لا يتكرر إلا قليلا، والرجل شاعر عبقري لامس أحاسيس الناس وسبق كل إنسان إلى ما يختلج في نفسه أو يعرض له من الأحوال وأتى له بما يتمثل به عند الحاجة، واخترق حجاب اللغة ومعاني الشعر فانكشفت له تلك الحجب التي استعصت على غيره ولهذا السبب سماه الناس «مالئ الدنيا وشاغل الناس» وهي تسمية تنطبق عليه وحده ولم يكرر الزمن مثله حتى اليوم.

* لماذا طغى «الجنس» على مشهد الرواية السعودية في الآونة الأخيرة؟

- كل محجوب مرغوب، وكل ممنوع مطلوب، هذا مثل يفسر ما سألت عنه وما يطغى في الروايات المحلية هو «منولوج داخلي» كبت وقمع حتى انفجر بهذه اللغة التي أشرت إليها.

* هل ثمة علاقة بين «الفقر العاطفي» و«الخواء الفكري»؟

- الفقر العاطفي والخواء الفكري مفردات ترددها ألسن الناس وتختلف في تعريفها، والجدل حولها قائم حتى تقوم الساعة والله أعلم بالصواب.

* كيف ترى أسلوب تعليم اللغة العربية في مدارس التعليم العام؟

- تعليم اللغة العربية ليس قضية، القضية إقناع أهل اللغة بصلاحها للتعليم والتعلم.

* هل يحتاج الإلمام باللغة العربية إلى حفظ ألفية ابن مالك؟

- ألفية ابن مالك أسلوب مرحلة مضت، واللغة عاشت وقامت بمهمتها العلمية والثقافية الفكرية قبل ألفية ابن مالك وبعدها، واختلاف وسائل التعليم لا يضر اللغة بل قد يثريها ويزيد قابليتها.

* عندما يحمل الإنسان في داخله ضده ماذا تتوقع أن يحدث له؟

- انشطار يؤذي ويدمر ويعيش هذه المفارق ولا أتوقع أن يفلح من يعيش المتناقضات في حياته سواء كانت داخل نفسه أو خارجها.

* لماذا كثرت «الهواجيس» في هذا الزمن؟

- عندما لا يستطيع المرء الحديث للناس بما في نفسه ولا يجد من يشاركه همومه، يلجأ إلى الذات والهواجس والوساوس حتى تستبد به الأوهام ويقتله الخوف مما قد لا يحدث له أبدا.

* «ثقافة النت» هل زاحمت ثقافة الكتاب؟

- الشبكة إضافة هائلة إلى مصادر المعرفة الحديثة والكتاب أول تلك المصادر والمعارف في الماضي، واليوم يسير الكتاب ومعه غيره من المقومات الثقافية والعلمية النافعة، وكل يأخذ مكانه والخيارات الكثيرة أصلح من الخيار الواحد.

* سيرة علمية

- مرزوق بن صنيتان بن مرزوق بن تنباك المسروحي الحربي

- مواليد بلاد مسروح بمنطقة المدينة المنورة عام 1950.

- بكالوريوس من كلية الآداب، جامعة الرياض، وأصبح معيدا في الجامعة.

- دكتوراه من جامعة إدنبره في اسكوتلندا، بالمملكة المتحدة.

- عين أستاذا مساعدا في جامعة الملك سعود، ثم أستاذا مشاركا، فأستاذا «بروفسور».

- شغل عضوية الكثير من اللجان الأكاديمية.

- كما ترأس الكثير من اللجان الجامعية.

- وكان عضوا في لجنة وضع مناهج دراسية للبنات (1415هـ)، والبنين عام (1406هـ).

- ناقش عددا من الرسائل العلمية. وأشرف على عدد آخر.

- وشارك في الكثير من المؤتمرات والندوات المحلية والعربية والعالمية.

- وألقى عشرات المحاضرات في المحافل الأدبية والأكاديمية.

- قدم الكثير من الأبحاث التي نُشرت في مجلات علمية متخصصة، بينها:

- «الأدب العامي ومحاور الاهتمام به»، «التسامح في الغيرة في شعر مسكين الدارمي»، «عقيل بن علفة، حياته، شعره»، «الجارة في الشعر العربي القديم»، «الجوار في الشعر حتى نهاية العصر الأموي»، «مصطلح الأدب الإسلامي»، «المتنبي والنقاد والتوحيد حوليات كلية العلوم الإنسانية»، «السر كما صوره الشعر»، «الزجر في وجدان الشعراء»، «الانتماء في الشعر العربي القديم».

- محرر وباحث رئيس، ورئيس الفريق العلمي لموسوعة القيم ومكارم الأخلاق العربية والإسلامية.

- حائز على جائزة مكتبة التربية العربي لدول الخليج لعام 1406-1407هـ عن كتاب «الفصحى ونظرية الفكر العامي».

* من مؤلفاته:

- «الفصحى ونظرية الفكر العامي».

- «الغيور والصبور».

- «الجوار عند العرب».

- «رسائل إلى الوطن».

- «في سبيل لغة القرآن».

- «المحاضرة».

- «الضيافة وآدابها».

- «الثقافة، اللغة، العولمة».

- «الوأد عند العرب بين الحقيقة والوهم».