ماهية المثقف في واقع مضطرب

فاضل السلطاني

TT

لا يمكن حصر التعريفات التي أطلقت على المثقف، خطأ أو صوابا، وما تزال الأجوبة تتعدد إلى درجة التناقض الكبير على السؤال الخالد «ما هو المثقف؟» في تعريف تي.أس. اليوت الشهير ، المثقف هو من يملك «أفضل التصورات والأفكار»، بغض النظر هنا عن نسبية هذه التصورات والأفكار؟ أما جان بول سارتر، فلم يقبل بأقل من أن يكون المثقف ضمير عصره، انطلاقا من نظريته في الالتزام الفكري والإنساني. وعربيا، دعا محمد عابد الجابري إلى تسمية المثقف بـ«المفكر»، لأن هذه هي وظيفته الأساسية: أن يحلل واقعه، ويقدم تصوراته، وبالتالي اقتراحاته على هذا الواقع، كما في اللاتينية intellectual المستخدمة في اللغات الأوروبية والتي هي أقرب إلى كلمة «مفكر» من كلمة «مثقف».

ضمن هذه الأمثلة القليلة عن ماهية المثقف، يمكن أن نستشف صفة واحدة تجمع بينها، و«ينبغي» أن يمتلكها المثقف: القدرة على الاستشراف. وهذه القدرة لا تأتي بالطبع إلا من معرفة شمولية تأهله على تحليل آلية التطور الاجتماعي، وقراءة الحركة الخفية للواقع، وليس انفجاراته السطحية، التي يراها أي إنسان بسيط قد لا يملك قدرا أدنى من الثقافة. واستنادا إلى هذه المعرفة، يستطيع المثقف فعلا أن يلعب الدور الذي طالما نفتقده: أن ينوّرنا ما أمكن بأحوالنا، ويكشف لنا إلى حد بعيد إلى أين نحن سائرون، وآلية تحرك واقعنا الذي نعيش، وبالتالي إلى أين نحن ماضون. ليس لكل ذلك علاقة بالتنجيم، بل هو من صلب عمل المثقف بالمعنى الذي أشرنا إليه، ومن جوهر انشغالاته، ماضيا وحاضرا.

إذا طبقنا ذلك على حدث جليل كالانتفاضات العربية، سنتبين كم إننا نفتقد المثقف بالمواصفات التي أشرنا إليها. فما أن شهدنا صعود الإسلامي السياسي في هذا البلد أو ذاك، حتى انقلبت الموازين، وسرعان ما تبدل الربيع العربي إلى خريف. قلة أشاروا، بحكم معرفتهم العميقة، إلى أن صعود الحركات المتطرفة هو شيء طبيعي في ظل الاحتقان الاجتماعي والسياسي، والموروث الضخم من التخلف والقمع، اللذين أوقفانا في مرحلة ما قبل التاريخ. حسنة الربيع العربي، كما يقول هاشم صالح، أنه أتاح لكل القيح الداخلي أن ينفجر، وأن تظهر النزعات الطائفية والعنصرية عارية على السطح، فقد ازدهرت في رأينا نتيجة قمعها طويلا، وعاشت على حساب القمع. هذه الحركات كما هو واضح في مصر وتونس، عاشت نشوة انتصارها الوهمي، متصورة أن التاريخ قد أنصفها أخيرا، بينما هو، في الحقيقة، قد أخرجها من أعماق الأرض إلى السطح استعدادا لمواجهتها، وخوض معركته الأخيرة معها ليواصل سيره الطبيعي والحتمي أيضا.

ثورة مصر الثانية تشهد على ذلك. إنها تصحح الربيع العربي، الذي ألبسه البعض باستعجال «غير معرفي» اتخذ صفة التنظير، لبوسا شتائيا.

ماذا سنقرأ بعد ثورة مصر الثانية؟