درس من سنغافورة

ميرزا الخويلدي

TT

على قلتها، فإن الكتب التي كتبها الزعماء تكشف عن تجربتهم في الإدارة، ورؤيتهم في القيادة، وغالبا ما يكتب الزعماء مذكراتهم التي يصلح بعضها لتوثيق التاريخ، ويصلح الآخر لكشف آليات الحكم وطرق صناعة القرار، أما البعض الآخر فيصلح لحكاية ما قبل النوم.

القائد الذي يضع كتابا لشعبه، لديه من الفكر والتجربة والإنجاز ما يرويه، أو لديه من الأحداث والأسرار ما يكشفه ويوثقه للتاريخ، ما لم يكن على شاكلة الزعماء العرب الملهمين الذين اشتغل أحدهم بصناعة «الكتاب الأخضر»، وراح الآخر يباريه في كتابة رواية بعنوان: «اخرج منها أيها الملعون»!

في سنغافورة، البلد الصغير الذي خرج بكل آلامه من حقبة الاستعمار ووحشة الانقسام والتمزق، وجدت قائدا فذا حقيقيا لم ينشغل بتصفية الحسابات ولا بمراكمة قوافل السائرين نحو الموت، بل أعطى شعبه الأمل، والثقة، والعدالة، فأصبحت أيقونات من الإلهام ساهمت في إحداث أهم نهضة في آسيا. وهي تجربة قامت أول ما قامت على الحداثة، وليس التسمر في الماضي، وعلى العلم وليس اجترار أساطير الأولين، وعلى الإقدام والشجاعة وليس التردد والجمود، وعلى التواصل مع العالم وليس القطيعة على الذات.

في كتابه «من العالم الثالث إلى الأول» (نشرته باللغة العربية مكتبة «العبيكان» 2005)، يروي رئيس الوزراء الأسبق لي كوان يو القصة الحقيقية لسنغافورة، وتفاصيل المعجزة التي نقلت هذا البلد الصغير من هوامش العالم الثالث إلى مصاف دول العالم الأول، والنجاح الذي حققه في ميادين الصناعة والاقتصاد.. فالرجل الذي ساهم في بناء التجربة السنغافورية، يقول بكثير من العفوية في بداية الفصل الأول من الكتاب: «هنالك كتب تعلمك كيف تشيد منزلا، وتصلح محركا، وتؤلف كتابا، ولكنني لم أر كتبا حول كيفية بناء دولة انطلاقا من مجموعة من المهاجرين اليائسين القادمين من الصين والهند البريطانية وجزر الهند الشرقية (الهولندية)، أو كيف يكسب شعبها لقمة العيش حين تتوقف عن لعب دورها الاقتصادي السابق كمركز محوري للتصدير والاستيراد في المنطقة».

لي كوان، هذا وصفه هنري كيسنجر الذي قدم للكتاب، بأنه «واحد من أعظم الشخصيات نفوذا وتأثيرا في التطورات التي شهدتها، وستشهدها، القارة الآسيوية». وفي مقدمة الكتاب يقول كوان: «كتبت هذا المؤلف من أجل الجيل الشاب من السنغافوريين الذين اعتبروا الاستقرار والنمو والرخاء قضايا مسلما بها». فقد أراد لشباب بلاده أن «يعرفوا حجم الصعوبات التي واجهتها دولة صغيرة محرومة من الموارد الطبيعية».

يتحدث عن شعبه كأنهم عائلة واحدة رغم الانقسامات العرقية والدينية، ويعتبر أن أبرز عناصر الثقة هي العدالة، والنزاهة، اللتان سعى لتطبيقهما حتى في تقاسم الظروف الصعبة، وليس فقط في تقاسم المنافع.. فسنغافورة التي نعرفها اليوم لم تكن جنة وادعة، فقد شهدت حقبة استعمارية ثقيلة سببت الكثير من الانقسام والفرقة، وتمكنت من تجاوز الآثار المدمرة للحرب العالمية الثانية، وواجهت التهديدات الشيوعية، لكنها استطاعت في زمن قياسي أن تتجاوز ظروفها الصعبة وتوحد شعبها وتعطيه الدافع والقيم الملهمة لخوض التحدي.. وهكذا نجحت.

لو قرأ كل زعيم هذا الكتاب لتمعن جيدا في التركة التي يخلفها لشعبه، ولحسب حسابا دقيقا لحكم التاريخ، فالشعارات كالزبد تذهب جفاء، وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض.