عبد الله صخي: الكتابة بالنسبة لي رد اعتبار لإنسانية منتهكة

أرخ روائيا لمدينة الفقر والثورة التي يتغير اسمها مع كل نظام جديد

عبد الله صخي
TT

إنها المدينة التي أنتجت الجوع والفقر والثورة والشعر والرواية؛ مدينة الثورة، حي الرافدين، مدينة صدام، وأخيرا مدينة الصدر، أسماء مختلفة، لكنها ملتصقة بتاريخ تلك المنطقة التي بدأت خلف سدة ناظم باشا، وانتهت بمدينة يتغير اسمها مع كل نظام سياسي في العراق. لكن تاريخ تلك المنطقة وذاكرتها الأصيلة بقيا هما هما، أو، في الأقل، في عملَيْ عبد الله صخي «خلف السدة» الصادر عام 2008، و«دروب الفقدان» الذي صدر أخيرا. وهي تسعى إلى متابعة حيوات ومصائر الشخصيات الرئيسة، التي وردت في رواية «خلف السدة». وتواصل تلك الرحلة المضنية التي بدأها المهاجرون الأوائل، وأقاموا خلف سدة ناظم باشا، ثم استقروا في مدينة «الثورة» (الصدر حاليا).

هنا لقاء مع الروائي عبد الله صخي، ابن هذه المدينة، وأول من أرخ لها روائيا:

* الكتابة الهاجس الذي شغلك منذ زمن بعيد جدا، كما أعرف، وللبدايات خصوصيتها التي تختلف من تجربة إلى أخرى.. كيف كانت تلك البداية؟

- أعتقد أن الأمر بدا كما لو أنه رد اعتبار لإنسانية منتهكة، حدث ذلك في السنوات الأولى من حياتي في المرحلة الدراسية المتوسطة، يومها تعرفت على الكتاب وما معناه وجدواه بالنسبة لي. رسمت الكتب لي خرائط وطرقا كثيرة ومن بينها الطريق للكتابة نفسها والتأليف، فوجدت في الكتابة شيئا أستطيع عبره أن أحقق شيئا لنفسي، وأيضا عبرها أستطيع أن أرد الاعتبار لحياة منتهكة عشتها وعاشها معي جيلي، وهي حياة منتهكة ومظلمة، لأنه لم تكن لنا طفولة في حياتي وحياة جيلي، ولو سئلت عن الكتب التي قرأتها في طفولتي لقلت كتاب «الأميرة والثعبان»، لأنه لم تكن هناك طفولة حقيقية كي نقرأ عنها، بل هناك طفولة مأساوية تكاد تكون الحياة فيها مشردة ومعتمة، من هنا بدأت أضع خطواتي الأولى نحو الكتابة والتأليف.

* هل تعتقد أن الألم يشكل الحافز أو الدافع وراء إبداع كثير من أعمال مثقفينا، نستطيع أن نتلمس حقيقة هذا الأمر في كثير من الأعمال الأدبية التي تتحدث عن ماضٍ مضنٍ، كما ذكرت، وها أنت تتحدث عن طفولتك بهذا الوجع الواضح؟

* لأن طفولتي كانت العامل الأساسي في تكويني، وفي تشكيل الطموحات اللاحقة، التي هي طموحات ليست بالكبيرة وإنما صغيرة جدا، ليس لي فقط وإنما طموح جيلي الذي يحلم أن يعيش المجتمع العراقي حياة كريمة. وكان هذا من أهم وأكبر المتطلبات، في الوقت الذي كان العالم يشهد فيه متغيرات هائلة جدا في الستينات والسبعينات، أولا، كانت هناك سيادة لليسار وللحركات الثورية في أكثر بقاع العالم، وثانيا، حدثت مظاهرات في فرنسا، وأعادت الاعتبار للتعليم ومستواه وللطلبة، كذلك منحت نوعا من الحريات الشخصية، وأفرزت في الوقت نفسه نوعا من الأدب الطليعي في فرنسا وإنجلترا وكذلك في العالم العربي، حيث ظهرت أعمال، مثل «تلك الرائحة» لصنع الله إبراهيم و«الخماسين» لغالب هلسا، وأعمال آسيا جبار ومولود فرعون وغيرهم كثيرون.. أقصد أن تلك الأحداث في العالم تركت آثارها على جيلي في العراق، إلى أي درجة كان هناك تماس بين هذه المؤثرات وحياتي كفتى وشاب؟ أعتقد أنها كان ذات تأثيرات كبيرة عليّ، ودعتني إلى أن أشارك بهذا المشروع الإنساني، الكتابة، التي أعتبرها مشروعا إنسانيا مهما وكبيرا.

* السياسة والثقافة

* في فترة ما، كان يجب على المثقف أن يكون سياسيا، أو أن السياسي بشكل ما كان يجب أن يكون مثقفا، ألا تعتقد أن الصورة الآن نقيضة لما كانت عليه سابقا؟

- هذا صحيح جدا، وربما هو النقيض من الأول، لكن المد السياسي آنذاك كان جبارا لا يمكن إيقافه، حيث لا يمكن للكاتب بذلك الوقت إلا أن ينحاز لما يؤمن به للناس ولأحلامهم وللطبقات الفقيرة، التي مثلتها الحركة اليسارية في العالم، وقد وجدنا في الأدب السوفياتي، وأدب البلدان الاشتراكية الأخرى معينا يمثل هذا الاتجاه، وهؤلاء الكتاب كانوا أدلاء بالنسبة لنا، فقد كانت أولى خطواتنا على الطريق نفس الذي سلكوه. لكننا وجدنا لاحقا أن هذا الارتباط الوثيق بين العمل السياسي والعمل الأدبي أو الفني ينبغي أن ينفصل وأن يكون هناك حاجز، فلا يمكن للأديب أو الفنان أن يكون سياسيا ناجحا أو بارعا، لأن للسياسي مواصفات خاصة لا يمكن أن يكونها الأديب، لذلك نرى عددا غير قليل من الكتاب البارزين حاولوا أن يكونوا سياسيين، لكنهم فشلوا فشلا ذريعا، مثلا ماريو يوسا الذي خاض الانتخابات، وفشل بشكل كبير، وكثير من الأدباء الشيوعيين الفرنسيين، فيما بعد، تخلوا عن هذا المشروع السياسي، ومنهم مثلا بيكاسو على سبيل المثال، على الرغم من أنهم ظلوا أصدقاء للحركة اليسارية في العالم، لكنهم انسحبوا من الانتماء له، لأن الانتماء قد يعيق، أو هكذا يخيل للبعض، وهذا صحيح، أنه يعيق الحرية الشخصية، فللعمل الحزبي والسياسي هناك اعتبارات وضوابط، أشك أن الكاتب والفنان قادر على الالتزام بها.

* حياة المنفى

* الاغتراب القسري الذي عشناه أثّر كثيرا على ما كتبه جيل عراقي، وجد نفسه مغتربا منذ نهاية السبعينات وحتى الآن، وهو نتاج يحمل تفاصيل المحيط الأول، بل حتى رائحة الأماكن، والاغتراب مفردة لا يعرف تأثيرها إلا من يعيشها، كتبت تفاصيل جزئية أدهشت من بقي في المكان نفسه، كيف كان ذلك، وما تأثير الاغتراب عليك؟

- منذ الأسابيع الأولى للهجرة، كنا نعتقد أننا سنعود بعد فترة قصيرة، وأن الحياة السياسية التي أجبرتنا على الفرار ستتغير لاحقا، لكن الوضع استمر كما هو عليه، لذلك كان العراق، ليس معي فقط، وإنما مع كل الذين أجبروا على الرحيل من الكتاب والفنانين، أن العراق موجود بداخلنا، بل حتى الحياة اليومية بتفاصيلها، وأتذكر جيدا أثناء حرب الخليج الأولى، إني اشتريت راديو صغيرا، لكي أستمع إلى الأخبار لحظة بلحظة، وهذا ما يثبت أن العراق لم يبتعد عنا، ولم نبتعد عنه، كنت دائم التفكير به، ومهتما بأدق التفاصيل، خاصة حينما يعيش الإنسان وحده، آنذاك تصبح القدرة على التأمل عالية، والقدرة على استعادة الماضي مدهشة بقوتها، وهذا بالطبع يتم إن كانت الذاكرة قادرة على استعادة هذا الصور، لذلك رأيت مدرستي والطلاب الذين كانوا معي، بل كنت أسير في شوارع المدينة، حياة الجامعة والنشاطات التي مورست خلال تلك الفترة وفي الحياة اليومية، لذلك لم يكن عسيرا عليّ أن أكتب عن هذه التفاصيل وأنا أعيش في الخارج، بل بالعكس كنت أشعر وكأني هناك في مكاني، كنت أشعر بدرجة حرارة الشمس وشدة الرياح، والأغاني كانت تستحضر رياح الحوادث، وحينما أسمع أغنية عراقية أستحضر شريطا من الأحداث، لذلك لم أكن أو زملائي مطلقا، بعيدين عن العراق أبدا.

* روايتك «خلف السدة»، جاءت بعد فترة تأمل واستعدادات كثيرة، ويبدو أن العمل استحق هذا التأمل، لما أثاره من ردود فعل إيجابية، ليس على صعيد الأدباء، بل حتى الناس البسطاء، الذين شعروا بالامتنان لكاتب مثلهم أرخ لمدينتهم. كيف بدأت فكرة كتابة هذا العمل؟

- «خلف السدة» نقلة مهمة في حياتي الأدبية، فكل ما كتبته قبل هذا المنجز هو مجموعة قصصية «حقول دائمة الخضرة»، وقصص أخرى نشرت هنا وهناك. قبل أن أبدأ بالعمل، وجدت نفسي محاصرا بعشرات الشخصيات التي التقيتها في طفولتي وصباي، أعادتني إلى تلك الأكواخ القاسية، حيث الظلمة، والوحل، والطين والتراب والفقر الشديد الذي لا يمكن وصفه. حياة أناس سكنوا خلف سدة ناظم باشا التي بنيت عام 1910 في بغداد، ما إن يجتازوا هذه السدة حتى يصبحوا في قلب المدينة، لم أتطرق إلى علاقة هذه المجموعة بالمدينة، لأن ذلك لم يكن مشروعيا، لكن تناوله كاتب، أعتقد أنه أرجنتيني في كتابه «بريد بغداد»، أردت أنا استعراض حياتهم، طموحات وأحلام هذه المجموعة التي جاءت إلى بغداد بقصد العثور على حياة أفضل من تلك التي عاشوها في القرى النائية، هربا من سلطة الإقطاع وسطوتهم، حيث ساهم قسم منهم في ثورة الـ20 ضد هذه الطبقة، فأصبحوا مطلوبين من قبل الحكومة، فبحثوا عن ملاذهم تحت ظل هذه المدينة، احتموا وعملوا بها، لكنهم بقوا منفصلين عنها ولهم حياتهم الخاصة، بهذه الرواية وفي دروب الفقدان، المكان كان ذريعة روائية، فقد يجد المرء تجمعات سكنية في مناطق أخرى من العراق، بل وحتى في الدول العربية، لكن هذا المكان ضروري، لأنه عين المشكلة وقلبها.

* قلت إن ردود الفعل الإيجابية حول تلك الرواية أشعرتك بالخوف، على الرغم من أنها نقلتك من منطقة الظل إلى الواجهة، لماذا الخوف؟

- العمل نقلة نوعية وخطيرة في حياتي الأدبية، فحينما كتبت «خلف السدة» رأيته نصا مقنعا بالنسبة لي، ولم أكن أعرف إلى أي مدى سيقنع القارئ، واعترف أني فوجئت بما لاقاه من قبول. أشعرني النص بقيمة أن يقدم الكاتب عملا يمس حياة الناس ومصائرهم، وتوصلت إلى رأي مضاد تماما، إلى فكرة أندريه بريتون، التي تقول إن العمل الواقعي هو معوق للتقدم البشري، فالاستقبال الذي حظيت به رواية خلف السدة، أشعرني أن العمل الواقعي هو أحد أسباب التقدم البشري، فقد كتب لي أحد القراء قائلا إنه سأل نفسه بعد قراءة «خلف السدة»: لماذا كنا ساكتين على كل هذا الظلم؟

* الإشكالية بين الدراما والرواية

* سمعنا أن روايتيك ستتحولان إلى عملين دراميين؛ هل تعتقد أن الدراما قادرة على عكس التفاصيل الدقيقة التي عملت على نسجها بدقة في عملك؟

- لا أعتقد أبدا أن الدراما تستطيع أن تعكس العمل الأدبي، وليس المطلوب من العمل الدرامي السينمائي أن يطابق الرواية، لأن جنس العمل سيتحول إلى شيء آخر، كمسلسل أو شريط سينمائي، وهذه لها اشتراطات تقنية وفنية خاصة. لكن هل سيكون النتاج الجديد القائم على الروايتين مقنعا أو هل سيضيف هذا الجنس الجديد من العمل شيئا للمتلقي ولذاكرته، أعتقد أن هذا هو الامتحان الذي سيواجه المسلسل أو الفيلم، طبعا هناك كثير من الشكوى من قبل الروائيين، الذين تحولت أعمالهم إلى أفلام أو مسلسلات، خرجت كثيرا عن أصل العمل، كما حصل مثلا مع أعمال نجيب محفوظ، إذ لم تكن مطابقة للرواية أو أضافت الشيء المهم لها، لكن في الوقت نفسه هناك أعمال أدبية جرى النظر لها من زوايا مختلفة، مثلا هاملت، إذ عولجت سينمائيا ومسرحيا من زوايا نظر مختلفة، لم تطرأ على بال شكسبير، هنا تتجسد فكرة الإضافة، وآمل أن يكون النتاج الجديد للروايتين هادفا ومثمرا.

* بعيدا عن المكان

* روايتا «خلف السدة» و« دروب الفقدان» تمثلان معا سيرة حياة مدينة، هل يمكن اعتبارهما سيرة للكاتب أيضا؟

- لا، إنها سيرة حياة جيل، تعرض في فترة السبعينيات إلى عسف واضطهاد واستبداد في كل مناحي الحياة؛ في المدرسة العمل، حاولت بهذا العمل أن أرصد التغيرات التي طرأت ليس فقط على مدينة (الثورة) التي اتخذتها ذريعة، بل على المجتمع العراقي عبر هذه المدينة، وآثار السياسية عليه انطلاقا من هذا المكان، فإن ما حدث في الرواية قد يحدث في أي مدينة أخرى في العراق، أردت أن أتتبع قدرة هؤلاء البشر على المواجهة، والوقوف ضد الاستبداد وقدرتهم على إيجاد منافذ مستمرة للحياة، وعبقريتهم في مواجهة الألم.

* قلت في مكان ما إنك وقفت على المسافة نفسها من الأحداث التي سردتها في روايتيك، هل تعتقد أن الكاتب يستطيع أن يقف في تلك المنطقة المحايدة؟

- حاولتُ أن أكون كذلك، ولا أعرف إلى أي مدى نجحت، أردت أن أنظر إلى الأحداث التاريخية بعين الفاحص والمحايد والمستقل، هل يستطيع الكاتب أن ينأى بنفسه بقوة عن حياته وحياة مجتمعه، أشك أنه يستطيع أن ينفصل، لكنه من الممكن أن يحافظ على مسافة معينة تؤهله للنظر بدقة أكبر لكشف تلك الأحداث وتطورات حياة الناس، لكن لا أظن بإمكانه أن يفصل حياته ورؤيته عن حركة المجتمع، باعتباره جزءا فاعلا في هذه الحركة وأحد مكوناتها، وأحد الذين سيعملون على تطوير هذه المكونات، أو بتقديم مشروع لإعادة بناء هذه المكونات الإنسانية، الكاتب ليس محايدا تماما، لكنه يسعى إلى أن يكون كذلك.