لماذا يصمتون؟

فاضل السلطاني

TT

ربما لا يعادل قسوة القمع الخيالية في بلدان ما قبل التاريخ الإنساني، والـ«شبح» و«الدولاب»، والشرارة الكهربائية فوق الجلد العاري، والبراميل التي تتفجر فوق الرؤوس في أي لحظة، سوى شعور شعب ما بأنه وحده بلا حول أمام جلاده. يتفنن بتعذيبه كما يشاء، ومتى يشاء، ويمحوه من الوجود، لأن موته هو شرط بقائه. قالها البعثيون العراقيون يوما: سنتركها أرضا بلا بشر، وفعلوها. ويفعلها الآن رفاقهم البعثيون السوريون. وهكذا، ارتُكبت وتُرتكب أبشع مجزرتين عربيتين في العصر الحديث.. بهدوء وبلا ضجة!

النداء الذي وجهه الكاتب السوري ياسين الحاج صالح، المختبئ في غوطة دمشق الشرقية من بطش النظام السوري، الذي يلاحقه منذ بدء الثورة السورية، وزج به في سجونه 16 عاما من دون محاكمة، ينزف بهذا الشعور المعذب بالوحدة. وكمثقف، لم يملك صالح سوى التوجه بندائه إلى زملاء الكلمة، والقيم الإيجابية الكبرى، أو هذا هو المفترض، مستنهضا فيهم ضمائرهم الأخلاقية والإنسانية.. أم نقول: واجبهم الأخلاقي والإنساني؟ صالح يناشد المثقفين الغربيين الضغط على حكوماتهم من أجل إنقاذ ما تبقى من الشعب السوري، «فهذا هو الشيء الإنساني والتقدمي الوحيد، إذ ليس هناك ما هو أكثر رجعية وفاشية في عالم اليوم من نظام يقتل شعبه ويجلب القتلة من بلدان ومنظمات حليفة له ويثير حربا طائفية، إن كان لا يصعب تفجيرها، فربما يكون وقفها مستحيلا قبل طحن مئات ألوف البشر».

صحيفتان من أكبر الصحف الغربية نشرتا النداء؛ الـ«لوموند» في فرنسا، والـ«غارديان» في بريطانيا. ولكن ماذا بعد؟ هل سيتحرك المثقفون الغربيون؟ لا نعتقد ذلك. لقد كان لهؤلاء المثقفين أصوات عالية قد تعلو على أصوات السياسيين، وقد تغير كلماتهم اتجاهات الرأي العام إلى هذه الدرجة أو تلك. فصرخة إميل زولا الشهيرة «إني أتهم» في القرن الـ19، هي التي حركت الأمة الفرنسية وأجبرت الحكومة آنذاك على التراجع عن قرارها الظالم بإدانة اليهودي دريفوس، بالخيانة العظمى.

وفي القرن الـ20، لم يختبر المثقفون الغربيون قوتهم المعنوية الهائلة إلا في حرب فيتنام، مسنودين بتغيرات اجتماعية كبيرة، منها الثورة الطلابية والشبابية، وصعود اليسار الذي انتمى إليه مثقفون من عيار عالمي ثقيل، كجان بول سارتر على سبيل المثال، الذي لم ينجح فقط في تحريك المثقفين الفرنسيين لصالح وقف الحرب في فيتنام، بل حرض أيضا المثقفين في أميركا نفسها وفي أوروبا، خالقا بذلك تيارا ثقافيا عالميا ضاغطا لا يمكن تجاهل تأثيراته البالغة على آلاف الناس. حالات قليلة في عصرنا الحالي تشكل فيها مثل هذا التيار الثقافي، بل على العكس من ذلك، صمت مثقفون في الغرب في الوقت الذي كان يجب أن يصرخوا، كما حصل في عهد ستالين مثلا. وهذا ما أدانه الروائي البريطاني مارتن أميس في كتابه «كوبا.. الرجل المرعب» (كوبا أحد ألقاب ستالين) حين طرح فيه سؤالا مركزيا على المثقفين الغربيين: لماذا سكتم عن اضطهاد زملائكم في روسيا أثناء حكم ستالين؟ أما الكاتب والصحافي البريطاني الشهير الراحل كريستوفر هيتشنز فقد «حدّث» سؤال صديقه اللدود: لماذا سكتم على اضطهاد الشعب العراقي أثناء حكم صدام حسين؟

إننا نسمع أصوات هؤلاء المثقفين حين تهدد بلدانهم بشن حرب ما. وهو شيء عظيم بالطبع، فلا شيء أنبل من الحفاظ على الحياة الإنسانية. لكن هذه الحياة لا تهددها الدبابات فقط، وللحرب أشكالها المختلفة، فالقمع والتعذيب، وتشريد البشر، وإفناء شعب من قبل حاكمه، كلها جرائم حرب. وللأسف لم نسمع أصوات هؤلاء المثقفين، ككتلة مؤثرة، وكأنهم لم يتعلموا درس صمتهم في عهدي ستالين وصدام حسين. وإذا كانت للسياسيين حساباتهم الصائبة أو غير الصائبة، فإن «غفلة» المثقفين، غربيين وغير غربيين، ليست مبررة على الإطلاق بحكم طبيعة دورهم، وهو دور أخلاقي وتاريخي وإنساني بالدرجة الأولى، غير محكوم بمكان أو زمان. ولا بأس أن نستشهد مرة أخرى بكلمات مارتن أميس في حديثه عن الأدباء الروس الذين اضطهدوا قبل 60 سنة، وفي محاكمته للضمير الثقافي الأوروبي: «كنتم تعرفون، ولكنكم لذتم بالصمت، والصمت تواطؤ وخيانة، ولولا ذلك كان يمكن منع ما حصل».

ولا بأس أيضا أن نصرخ مع ياسين الحاج صالح: افعلوا شيئا قبل فوات الأوان.