الثقافة المصرية إلى أين؟

بعد صحوة تاريخية لها.. أدباء وشعراء يناقشون مستقبلها

جانب من تظاهرات موظفي وزارة الثقافة أثناء حكم الرئيس السابق مرسي
TT

بعد صحوة استثنائية غير مسبوقة في تاريخهم، استطاعوا من خلالها أن يوقفوا ما سمي بمخطط «أخونة الثقافة»، وأن يحتلوا مقر وزارتها ويعتصموا به، على مدار شهر ونصف الشهر، ويمنعوا وزير الثقافة المفروض عليهم من قبل جماعة الإخوان المسلمين، الدكتور علاء عبد العزيز من دخول مكتبه.

لكن صحوة المثقفين والكتاب والشعراء والفنانين المصريين، لم تلفت إليهم أنظار النخبة السياسية والثقافية فقط، بل لفتت بأدائها الثوري النبيل أنظار رجل الشارع العادي، فطيلة أيام الاعتصام تحول محيط مقر وزارة الثقافة بحي الزمالك الراقي بالقاهرة إلى منصة مسرح تتعدد عليها - كل مساء - شتى مظاهر الفنون من الشعر والموسيقى والغناء والعروض المسرحية، حتى فن الباليه تحدى فتاوى التحريم التي طالته وأقام شباب باليه الأوبرا أحد أشهر عروضهم الفنية في الشارع أمام الناس، وهو ما حول الاعتصام إلى لوحة إبداعية حية دافقة بالإبداع الحر، وجعل خطاب النخبة المثقفة يقترب كثيرا من هموم الشارع والناس البسطاء.

ويضيف مراقبون للشأن الثقافي المصري، أنه رغم بعض الأصوات التي عارضت هذا الاعتصام، واعتبرته مسلكا لا يليق بجماعة المثقفين، إلا أنهم يرون أنه نجح في أن يوحد نسيج الكتلة الثقافية، وجعلها تطفو على السطح كقوة فاعلة في المجتمع، كما أن الاعتصام كان بمثابة اختبار حي للمثقفين والمبدعين بكل أطيافهم ومشاربهم على الصلابة والمثابرة والتمسك بالمبدأ في مواجهة هجمة شرسة سعت إلى تقويض الكوادر الثقافية، وإقصائها عن مواقعها القيادية، ومن ثم تفريغ الثقافة المصرية من قوتها الناعمة، والدخول بها في نفق معتم من أجل مخطط سياسي عقيم.

الآن وبعد رياح التغيير التي قلبت المعادلة السياسية في المجتمع رأسا على عقب، والاستعانة بوزير الثقافة الأسبق د. صابر عرب ليتولى منصب وزير ثقافة مصر للمرة الثالثة في أقل من عام، وهو ما أغضب عددا كبيرا من المثقفين والمبدعين، الذين يرون أن النهج الإصلاحي الترميمي الذي يتبعه الوزير عرب، لم يعد مجديا في التعامل مع ثقافة في حالة ثورة، وتحتاج لكثير من القرارات الجريئة للنهوض بالشأن الثقافي في شتى المجالات.

لكن عرب، وفي محاولة لقطع الطريق على هذه الانتقادات الرافضة له، بادر في أول يوم عمل له باستقبال مجموعة من الأدباء والمثقفين والفنانين بمكتبه بمقر الوزارة، وأكد لهم على حد قوله: «أن المشروعات التي توقفت خلال الفترة السابقة سيتم استكمالها ولن تطفأ أنوار المسارح، وستعود المهرجانات ومعارض الكتب وحفلات الأوبرا مرة أخرى». كما ناقش اللقاء مجموعة من القضايا الثقافية المطروحة على الساحة، منها استقلال القرار الثقافي المصري، حيث إن الثقافة المصرية مستهدفة بمحاولة تجريف الثقافة واستبعاد المثقف المصري من المشهد السياسي. وطرح المثقفون فكرة إقامة حفلات بالأوبرا والمواقع الثقافية والمسارح التابعة للدولة لتأصيل فكرة الهوية الثقافية المصرية من خلال الأزهر الشريف ووزارة التربية والتعليم، كما طرح المثقفون فكرة إقامة مؤتمر ثقافي حول مستقبل الثقافة في مصر، على أن يكون الرئيس الشرفي للمؤتمر الروائي الكبير بهاء طاهر.

وتطرق اللقاء إلى المشروعات المعطلة، ومنها المسرح القومي بالعتبة وكذلك عدد من قصور الثقافة والتي توقفت الأنشطة بها، وإقامة معرض فيصل للكتاب والذي كان يقام كل عام في شهر رمضان، كما ناقش الحضور توقف فعاليات الوزارة خلال شهر رمضان، واستعادة ميزانية جوائز الدولة في الفنون والآداب والعلوم التي جمدها الوزير السابق.

وأكد الاجتماع في تصريحات صحافية على ضرورة إعادة هيكلة وزارة الثقافة وإعادة تأهيل الطاقات البشرية العاملة بها، واختيار القيادات من خلال معايير محددة، كما طالب المثقفون بأن يكون المجلس الأعلى للثقافة أقوى سلطة شعبية للتعبير عن الهوية المصرية بكل أطيافها وأشكالها. وفي محاولة لترضية جماعة المثقفين أعاد الوزير عرب معظم رؤساء القطاعات الثقافية الذين أطاح بهم الوزير السابق. وفي مقدمتها أمين عام المجلس الأعلى للثقافة الدكتور سعيد توفيق، ورئيسة دار الأوبرا عازفة الفلوت الدكتورة إيناس عبد الدايم.

لكن هذا التغير الثوري الذي طرأ في نسيج الواقع على المستوى السياسي والاجتماعي والاقتصادي، إلى أي مدى يمكن أن يؤثر في خريطة الثقافة المصرية وفي المشهد الإبداعي على نحو خاص، والذي لا يزال يعاني من وطأة الاتفاق والاختلاف؟.. في هذا التحقيق الواقع محاولة لاستطلاع الصورة:

يقول الشاعر محمود قرني: «لا أعتقد أن التعبير الثوري عن الثقافة المصرية كان إيجابيا، بأي صورة، منذ ثورة الخامس والعشرين من يناير (كانون الثاني) 2011 وحتى ما بعد الثلاثين من يونيو (حزيران) 2013. فلم يكن النكوص متعلقا بإسناد إدارة الثقافة لأسماء أقل قامة من الفعل الثوري فحسب، بل ظلت مساحة التوقعات حول مستقبل أفضل تنحسر وتتقوقع حتى وقوع الدولة بقضها وقضيضها في قصعة الإخوان المسلمين.

وأظن أن نهر الثقافة المصرية، قبل وبعد الإخوان، يستعصي علي التدجين أو الاستئناس. والسؤال عن ثقافة ما بعد الإخوان يقفز إلى افتراضات لم تكن موضع جدل أصلا، لأن البؤرة المركزية في الثقافة المصرية هي التعدد والتنوع.. وهي ضلع تناقضه ثقافة الوثوقية في المرجعية الدينية عموما والإخوانية على نحو خاص.

يتابع قرني: «ثقافة الإخوان في أبسط تعريفاتها وأقلها وطأة، فوق السمع والطاعة، إنها تبجيل تاريخي للمعرفة النقلية مقابل احتقار المعرفة العقلية.. من ثم فإن علاقتها بالزمن علاقة نقائض. فهي تعتمد علي تثبيت القيم الإنسانية باعتبارها خارج الصراع التاريخي. وقد سعت الجماعة في سبيل ذلك إلى اختصار الميراث الحضاري المصري الباهظ في حقبة الفتح العربي. ورغم تقديرنا لهذه الحقبة التاريخية من عمر مصر، إلا أن حصر التاريخ المصري في حوصلتها يعني مزيدا من الاحتقار لما عداه من تواريخ ومعارف، في لحظة يستحيل فيها أن تحوز مثل هذه الأفكار الأحادية إجماعا وطنيا مقبولا في حده الأدنى، ما كان يعني ببساطة إصرارا علي إعادة إنتاج النموذج القمعي للدولة الشمولية باسم الدين، يؤكد ذلك حديث وزير الثقافة الذي جلبته الإخوان قبل مغادرة مواقعها إلى غير رجعة عن ما يسمي بـ(أسلمة الثقافة)؛ ففضلا عن أن المفهوم يفتقر إلى أدنى الحدود العلمية المتعارف عليها لتعريف الثقافة».

ويخلص صاحب «لعنات مشرقية» بقوله: «المؤكد أن النموذج العقائدي فشل عبر التاريخ في إنتاج نموذج ثقافي إنساني، لأنه ببساطة يقوم علي تعزيز التفرقة بين البشر على أسس دينية. حدث هذا الفشل لدى نماذج أكثر نصاعة تاريخيا، فما بالنا بالنموذج الإخواني الذي فشل عبر ثمانين عاما من النضال عن تقديم مفكر واحد أو شاعر موهوب ومؤثر أو فنان ساهم في تغيير مسيرة الفن. وسيظل إصرار مثل تلك الجماعات على احتكار المعرفة عائقا أمام التطور المجتمعي بكل أشكاله وصنوفه. وربما لهذا السبب كتب الشعب المصري أسرع نهاية ممكنة لمرجعية التخلف.

ويرى الناقد الأدبي الدكتور يسري عبد الله، أن مصر تعيش لحظة فارقة ومفصلية في تاريخها، تستلزم حضورا مختلفا للثقافة المصرية، لتصبح أداة فعل، وتنوير حقيقي لا مزعوم، يستعاد من خلاله قيم التقدم والحداثة والإبداع، وبما يعني إعادة الاعتبار لقيم تلك الثقافة بمفرداتها المختلفة. ومن ثم، على وزارة الثقافة بعد ثورة الثلاثين من يونيو المجيدة ألا تعيد إنتاج الماضي بسياساته وشخوصه، بل تسعى إلى التأسيس لوعي معرفي مغاير، يؤمن بالهوية الوطنية المصرية الجامعة، وبتجلياتها المختلفة.

ويوضح عبد الله أن الموجة الثانية من الثورة المصرية سعت إلى إنهاء حالة الزيف الاجتماعي الفادحة التي صنعها كل من يمتطي الدين وسيلة لتحقيق مآربه السياسية، وأصبحنا أمام لحظة من المكاشفة، وهذا يستوجب فعلا ثقافيا كبيرا يسعى إلى تخليص الأمة المصرية من آثار العتامة التي لحقت بها عبر العدوان السافر للتيار المتأسلم على الهوية المصرية.

ويحدد عبد الله دور المثقف في هذه اللحظة المفصلية بأنه عليه أن يستعيد دوره التاريخي بوصفه تعبيرا عن الوجدان الجمعي للجماهير في سعيها نحو الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، مؤكدا أن المثقف الآن بمثابة رأس الرمح الطليعي الذي يبلور أحلام البسطاء والمهمشين في عالم أكثر عدلا وإنسانية، ولذلك فلا بد من استعادة دور المثقف العضوي المنتمي إلى ناسه، والمعبر عن واقعه، لمواجهة القوى الرجعية المستترة خلف الدين، والتي تتخذ منه مطية لتحقيق أغراضها الانتهازية الخاصة، ولذا لا بد من استعادة قيم الثقافة الوطنية المصرية والانحياز إلى الحرية والتقدم والحداثة والإبداع والتسامح، والكشف عن الوجه الطليعي الجديد في الثقافة المصرية. وأن يؤدي دوره التنويري الحقيقي، وليس المزعوم تجاه ناسه وجماهير شعبه، لمواجهة القوى الرجعية المتحالفة مع الفساد، دفاعا عن قيم الدولة المدنية الحديثة بنت التنوع الخلاق، والصيغة الوطنية للدولة المصرية بنت التراكم الحضاري، مشيرا إلى أن معركة المثقفين الحقيقيين تظل هي كشف وتعرية ومواجهة العصابات الرجعية والفاسدة التي تريد أن تغتال أنبل ما في هذا الوطن، تغتال ثقافته الوطنية، ومبدعيه، وكفاءاته.

وبحسه السردي الشفيف يستعيد الراوائي سعد القرش مشهدا مدته ثماني ثوان في فيلم (البداية) لصلاح أبو سيف، يقول فيه الفنان أحمد زكي: «الثورة مستمرة، وإذا كنا غلطنا أو انضحك علينا مرة فده مش معناه يعني أن احنا نيأس كده».. لكن القرش في ظل هذا المشهد يؤكد أن الثورة لا تستمر إلى الأبد، ولكنها تثمر دستورا ودولة قانون، أما التمرد ثقافي فهو فعل مستمر.

يتابع: «في الفيلم نفسه، مشهد آخر يتولى فيه جميل راتب التعريف بالإنسان الديمقراطي، قائلا إنه كافر والعياذ بالله». ولهذا المشهد تاريخ يخص المثقف غير العضوي، إذا استعرنا مفهوم جرامشي، إذ كان أستاذ الجيل أحمد لطفي السيد يبشر بقيم الديمقراطية، ويدعو الناس لتقبل فكرة الاختلاف، ففي الحياة والسياسة تخضع الأمور للصواب والخطأ، أما في الدين فتخضع لمنطق الحلال والحرام، ولهذا يجب إبعاد المقدس عن المتغير الخاضع للتقلبات، ولهذا قال الرجل عبارة أصبحت كالماء والهواء «الاختلاف في الرأي لا يفسد للود قضية».

وفي سياق هذه المقاربة يوضح القرش أن: «ما يعنيني أن أعود بأصول تعريف جميل راتب لمصطلح الديمقراطي أراد به تأليب الناس على التمرد بحجة أنه ديمقراطي كافر والعياذ بالله»، فقد رشح لطفي السيد نفسه في انتخابات البرلمان، ولجأ منافسه إلى حيلة وضيعة تمكن بها من تضليل الناس عن طريق الشرح الزائف غير الحقيقي للمصطلح، إذ قال لهم إن هذا الرجل ديمقراطي، أي أنه يدعو للمساواة بين المرأة والرجل، ويسمح للمرأة أن تتزوج أربعة. ولما جاء أستاذ الجيل، سألوه: أنت ديمقراطي؟ فأجاب بثقة: نعم، فقالوا: أعوذ بالله، استغفر الله العظيم، وهزم في الانتخابات وفاز الجاهل بالتحايل.

ويخلص الروائي صحب كتاب «الثورة الآن» قائلا: «هذا ما نريده من الثقافة في الفترة القادمة، أن تكون فعل استنارة ميدانيا، لا يكتفي المثقف بالتنظير، وهو مطلوب أيضا ولكن في قاعات البحث والدراسات المتخصصة، وإنما يقترب من الناس، بالكتابة والإطلال عبر اللقاءات المفتوحة والبرامج التلفزيونية لشرح جملة يوسف إدريس القديمة «أهمية أن نتثقف يا ناس»، وفي هذه الحالة لن يستطيع «متجيل» أن يخدع الناس ويؤلبهم على المثقف، ويدفعهم لكراهية قيم القدم، وساعتها سيكون مهيأ للحكم العلماني الذي لا يعادي الدين، بل سيجد الدين، أي دين، متسعا للممارسة والتبشير حتى، في ظل الدولة العلمانية التي سيكون دينها القانون.