رابعة العدوية

ميرزا الخويلدي

TT

ظلمت رابعة العدوية في مصر كما ظلمت في العراق. في الزمن السحيق، خطفت من بيتها في البصرة بعد أن استبد بها وأخواتها اليتيمات الفقر والجوع وهن صغيرات، فبيعت بستة دراهم لتاجر أذاقها صنوف العناء. وظلمت في مصر حين انبرى مجموعة من أهل الفن وصوروا سيرتها كفتاة تمرغت في حياة الغواية والشهوات قبل أن تعرف التوبة. كان ذلك في فيلم سينمائي يحمل اسمها أنتج عام 1963 من بطولة الممثلة نبيلة عبيد التي جسدت دورها والممثلين الراحلين فريد شوقي وعماد حمدي، وإخراج نيازي مصطفى.

عرف المصريون رابعة العدوية، وأعجبوا بها، وأنتجوا سيرتها تبعا للزمان والمكان، فكل حين لها قصة من الكرامات إلى المعجزات، وتعلقوا بأهداب «أم الخير». ومن أجلها انتفض الدكتور عبد الرحمن بدوي (1917 - 2002) ليجلي الشك عن سيرتها ويفند الاتهام بأنها كانت غانية وجدت طريقها نحو الحقيقة. فهو يثبت في كتابه «رابعة العدوية شهيدة العشق الإلهي» (1948) أن رابعة كانت منصرفة للعبادة والعرفان منذ صباها، بل إن مناجاتها وهي طفلة في جوف الليل كانت سببا لعتقها من السبي.

لقد ظلت رابعة العدوية طيلة ثمانين عاما من عمرها (مولدها نحو عام 100 هـ - 717م، ووفاتها في سنة 180هـ - 796م) في العبادة والزهد والعرفان، وألهمت المتصوفين الذين جاءوا بعدها بمفاهيم العشق الإلهي، والزهد في الدنيا، والترفع عن ملذاتها.

وهي القائلة:

أحبك حبين: حب الهوى

وحبا لأنك أهل لذاكا

كما نسبت لها الكرامات والمعجزات، واختلطت بسيرتها الكثير من الأساطير. وقد شبهها بعضهم بمريم العذراء، كالشاعر الفارسي فريد الدين العطار في كتابه «تذكرة الأولياء». والعطار صوفي آخر تعلق بسيرتها.

كل المجد الذي حازته رابعة العدوية أنها كانت عاشقة لربها، لم تشتغل بالسياسة وألاعيبها، ولم تعرف السلطة ولا أحابيلها، ولم تطلب الإمارة، ولم تسع للجاه ولا السلطان، ولا عرفت الأحزاب، ولم تناضل يوما أو تعلن الجهاد، كل همها كان الهيام عشقا في الملكوت الأعلى، وكل هتافاتها مجرد أشعار من قلب عاشق يهيم حبا في خالقه، وينصرف بكل جوارحه عن المخلوقين.

اليوم تعود رابعة العدوية لواجهة الأحداث، ليس كناسكة زاهدة، وإنما كعنوان يرتبط بالاحتراب السياسي الذي لم تعرفه المرأة التي قالت:

فليتك تحلو والحياة مريرة

وليتك ترضى والأنام غضاب

وليت الذي بيني وبينك عامر

وبيني وبين العالمين خراب

إذا صح منك الود فالكل هين

وكل الذي فوق التراب تراب

ما الذي يميز مكانا يحمل اسم رابعة العدوية سوى الزهد والتصوف والابتعاد عن الدنيوي، فكثيرا ما كان للزمان والمكان، وللشخصيات أيضا، رمزيتها في الصراع السياسي، جميعها تلعب دورا ملهما ومغذيا ومحرضا للأفكار. ميدان التحرير في القاهرة، مثلا، أخذ زخما عاليا لأنه انتسب لنضال المصريين ضد الاستعمار في ثورتي 1919 و1952.

لكن من أين لرابعة العدوية أن تمنح الحناجر والقبضات التي تلوح في الهواء زخما، وهي المتذللة الخاشعة التي ما فتئت ترخي أعنتها تذللا لخالقها؟

حتى الذين نغصوا على رابعة رقتها وصدقها وشفافيتها وعذوبة شعرها، بادعاء أن جبريل (عليه السلام) تنزل عليهم في الميدان، كانوا يؤدون طقسا خادعا في التضليل، أين منه صدق رابعة؟!

ليتهم يقرأون ما كانت تردد من شعر وهي تخاطبهم (ربما):

راحتي يا إخوتي في خلوتي

وحبيبي دائما في حضرتي

لم أجد لي عن هواه عوضا

وهواه في البرايا محنتي