بيري الكاريبي ومظفر العربي

فاضل السلطاني

TT

في قاعة كبيرة بالعاصمة البريطانية، اجتمع شعراء وكتاب وموسيقيون معروفون: كاندرو موشن شاعر التاج البريطاني السابق من 1999 - 2009. وروجر ميكوف أحد أبرز الشعراء البريطانيين الساخرين وكتاب أدب الطفل، وأيان مكميلا الشاعر ومقدم البرنامج الشهير «ذا فيرب أفري وييك» في «بي بي سي»، (راديو 3). ومايكل هوروفيتس الشاعر والفنان والمترجم وغيرهم، في حفل خيري للمساهمة في دفع فواتير شاعر آخر يرقد في بيت من بيوت الرعاية الاجتماعية. كانت القاعة قد حجزت منذ أيام طويلة، رغم سعر الدخول المرتفع نسبيا. حضر الشعر، شعر الرجل العاجز بالذات، بأقوى ما يكون، وشعر الآخرين المكرس له، والموسيقى المستلهمة من كلماته. وأكثر من ذلك، أسسوا جمعية باسمه لمساعدة الكتاب المرضى ذهنيا، وخاصة ضحايا ألزهايمر.

لم يكن الرجل إنجليزيا ليحتفي به الإنجليز بهذا الشكل، ويأخذون بيده في سنوات ضعفه وعجزه، بل في الأصل مهاجر كاريبي أسود، من ذلك البلد الشقي جامايكا. إنه جيمس بيري، الذي هرب من وطنه عام 1948، واتخذ من بريطانيا وطنا ثانيا له. ولم يخذله وطنه الجديد، فمنحه أرفع وسام بريطاني هو وسام الإمبراطورية البريطانية. لكن، في الحقيقة، كما عند كثير من الكتاب المنفيين، لم يكن «الوطن الجديد» سوى جغرافيا. ظلت عينا بيري مغلقتين على كل شيء سوى ذلك الوطن المعذب جامايكا، فكرس كل شعره، وفعاليته الثقافية لهذا البلد، مؤثرا في أجيال من الكتاب الكاريبيي الأصل، الحاضرين بقوة في المشهد الثقافي البريطاني، لكن بروح كاريبية.

لا يملك المرء في لحظات كهذه سوى الشعور بحزن شديد على أنفسنا، فوفاء كهذا نادر للأسف عندنا. لا نعني الاهتمام الرسمي، فهذا ميؤوس منه تماما، بل تضامن المبدع مع زميله المبدع حين يخونه الزمن، وهو يخوننا جميعا عاجلا أو آجلا، ويكون أحوج ما يكون للفتة وفاء، وكلمة اعتراف بمنجزه وعطائه. مبدعون عرب كثيرون، ملأوا الدنيا يوما ما، وقدموا مساهمات كبيرة ساهمت في تطوير الأدب العربي، وعلموا أجيالا أسس الكتابة وفنونها، لكنهم الآن وحيدون يصارعون الوحشة والعزلة والمرض، وآخرهم، على سبيل المثال، مظفر النواب - هذا الشاعر الذي قد يكون، إلى جانب نزار قباني ومحمود درويش، أكثر الشعراء العرب جماهيرية في القرن العشرين، وأكبر شاعر غنائي شعبي في ذلك القرن، كما يقول عبد الرحمن الأبنودي بحق. إنه يرقد الآن شبه وحيد في أحد مستشفيات بيروت، بعيدا عن وطنه العراق، الذي قدم له حياته، سجنا ومنفى لا يزال ممتدا لأكثر من نصف قرن، وقصائد تكاد لا تخلو واحدة منها من غزل صوفي بالعراق، هذا العراق الذي لا تزال تنكر حكومته على النواب راتبه التقاعدي، وهو لا يتجاوز في أفضل الأحوال الخمسمائة دولار، بينما ينهب لصوصها المليارات وليس الملايين في وضح النهار. لكننا قلنا إننا لا نعني الحكومات، بل زملاء مظفر المبدعين. أين هم؟

لا أحد يطالب بالشيء الكثير، لا تمثال، أو جمعية باسم أحد مبدعينا في الخريف الذي لا بد منه، ولا حتى بشارع. ليس أكثر من عرفان بالجميل قبل فوات الأوان، واحتفاء ليس أكثر من بضع ساعات، لكنه سيكون اعترافا ذا دلالات كبيرة بمنجز عمر، تذكرا ضد النسيان، ووفاء ضد الجحود، يعوض الروح أخيرا عن عجز الجسم اللئيم.. احتفاء بسيط من كتاب عرب بكتاب عرب، ليس أكثر من احتفاء كتاب إنجليز بشاعر كاريبي!