ثقافة مصر.. إلى أين؟

كتاب وشعراء وفنانون يواجهون مشاكلها في مؤتمر بالقاهرة

TT

في مؤتمر حمل عنوان «ثقافة مصر في المواجهة»، استمر ثلاثة أيام، وافتتحه صباح الثلاثاء الماضي وزير الثقافة الدكتور صابر عرب نيابة عن رئيس الوزراء الدكتور حازم الببلاوي، ناقش المثقفون المصريون مشاكل وأمراض ثقافتهم، وعلاقتها بالتحولات التي يمر بها المجتمع على المستوى السياسي والاجتماعي والاقتصادي، بحثا عن حلول ناجعة تدفع بهوية مصر الثقافية إلى آفاق مستقبل حر، بعيدا عن سياسات التنميط والتهميش والقولبة والتدجين، التي حكمت علاقة المثقفين بالنظام الحاكم والسلطة الثقافية طيلة عقود طويلة.

انعقدت جلسات المؤتمر الذي رأسه الكاتب الروائي بهاء طاهر، بمقر المجلس الأعلى للثقافة بالقاهرة، وتبلورت محاوره الأساسية حول عدد من القضايا المهمة، من أبرزها: «الثقافة المستقلة بعد الثورة.. إلى أين؟، ومؤسسات وزارة الثقافة.. إعادة هيكلة.. أم ثورة كاملة؟، والثقافة الجماهيرية.. كنز الوطن المهدور، وهوية مصر الثقافية.. وتفعيل دور المثقفين».

ورغم تزاحم الأبحاث والأوراق المقدمة في المؤتمر فإن معظمها انصب على إعادة الهيكلة كأداة للإصلاح والترميم. وشملت إعادة الهيكلة وزارة الثقافة نفسها، وعددا من هيئاتها مثل الثقافة الجماهيرية والمجلس الأعلى للثقافة، وهو ما يعني ضمنيا في نظر كثير من المتابعين، إعادة إنتاج المساوئ والعيوب نفسها، بعد تسكينها وتغليفها ببريق إصلاحي مخادع.

ولفت هؤلاء المتابعون إلى أنه ليس من المعقول، وفي مجتمع قام على مدى عامين ونصف العام بثورتين، أزاح خلالهما نظامين مستبدين أن يكون هذا الهم الإصلاحي العقيم هو ما يشغل بال المثقفين، مؤكدين أن الوزارة نفسها وكل هيئاتها تحتاج إلى ثورة حقيقية، وإلى تغيير شامل لسياساتها وتوجهاتها ولوائحها، حتى تكون بيتا حقيقيا للمثقفين وليس مجرد آلة تدور في فلك السلطة.

هذا الهم بالتغيير الشامل برز في المؤتمر على نحو لافت في دراسة مهمة قدمها الفنان الناقد التشكيلي عز الدين نجيب بعنوان: «الرؤية.. في المشروع الثقافي المأمول»، التي استعرض فيها معاناة المثقفين على امتداد عقود متصلة من شعور قاس بالتهميش والإقصاء من قبل الدولة والمجتمع، وأصاب مجالات الإبداع المختلفة من آداب وفنون، ودراسات نقدية بالعطب، وعدم التواصل والتفاعل الحي مع المجتمع. حتى بدا المجتمع نفسه وكأنه ليس بحاجة أصلا إلى الثقافة، بعد أن قبعت بدورها في خانة «ترف الضرورة» بالنسبة للسلطة.

واستعرض نجيب في سياق رؤيته المبادرات الثقافية الجزئية والمتفرقة لكتاب وفنانين، ولجماعات أهلية، حاولت كسر هذا الحصار والتهميش اللذين تتعرض لهما الثقافة، موضحا كيف تركت كل هذه المبادرات آثارها الواضحة على وعي الجماهير وأذواقها تبعا للمجالات الفنية المختلفة.

وطرح عز الدين نجيب حزمة من الأسئلة المهمة على المؤتمر، مطالبا بضرورة تحديد: ما المطلوب وبشكل عملي كي تلحق الثقافة بقطار الثورة، منوها ضمنيا بأن أي إصلاح داخلي ولكي يتسق مع ثقافة الثورة، لا بد أن يبدأ بتغيير جميع القيادات لصالح قيادات شابة وممثلة لفكر الثورة، أو التفكير بحل الوزارة لصالح إقامة المؤسسات الثقافية المستقلة، بعيدا عن قبضة الدولة.. وأشار نجيب إلى أن كل هذه الأفكار هي مطالب ملحة تنادي بها أصوات عديدة في الجماعة الثقافية.

واقترح المخرج السينمائي مجدي أحمد علي مجموعة من الأسس للنهوض بمستقبل الثقافة، في ورقته التي حملت عنوان «مصر تستحق الأفضل.. أفكار حول النهوض بالثقافة والفن» من بين هذه الأسس: ضرورة صيانة الدولة لحرية الفكر والإبداع والحق في المعرفة وتداول المعلومات، وتجريم أي اعتداء على الحريات الأساسية للمواطن، وأي تحريض على مصادرتها.

وطالب مجدي بدعم استقلال الثقافة والمثقفين وإنهاء وصاية الدولة على الثقافة وكل أشكال الرقابة الرسمية على حرية الرأي والإبداع والبحث العلمي، لافتا إلى أن هذا لا يعني تخلي الدولة عن دورها في تطوير أداء المؤسسات الثقافية، ومد يد العون لها عبر آليات وقوانين وتشريعات تتيح لها مزيدا من الحرية والانتشار والوجود بين الجماهير، والتعامل مع الثقافة كخدمة وصناعة استراتيجية، وليست سلعة للبيع والشراء.

وشدد مجدي على ضرورة مشاركة المثقفين في كل ما يتعلق بالشأن الثقافي، لأنهم على حد قولة «هم أدرى الناس بشؤون الثقافة وتحديات الممارسة وإشكالياتها، لذلك فإن وضع سياسة تحدد علاقة الدولة بالمؤسسات الثقافية لا يمكن أن يكون ذلك بمعزل عن أفكارهم الخلاقة، مطالبا بتشجيع الدولة الاستثمار في مجال الثقافة، وإصدار التشريعات اللازمة، بشكل لا يعوق مسارات هذا الاستثمار، بل يدعمه وينميه.

ومن بين الأوراق اللافتة في المؤتمر، ورقة الشاعرة أمل جمال، بعنوان «ثقافة القرية والهرم المقلوب»، التي كشفت من خلالها عن أحد الأدوار المهمة الغائبة عن مهمة هيئة الثقافة الجماهيرية، والتي ترعى بيوت ومراكز وقصور الثقافة في قرى ومدن ومحافظات مصر، كشفت الورقة عن افتقاد الكثير من القرى عناصر الجذب الثقافي الحقيقي، وعدم توافر أية مساحة مخصصة لعروض السينما، أو المسرح، أو معارض وورش الرسم، والفنون الحرفية.

ونبهت الورقة إلى مخاطر جمة لغياب الدور الثقافي عن القرية المصرية، وأنه يترك المساحة شاغرة لمن لديهم القدرة على الجذب والتأثير وتشكيل الوجدان لخدمة آيدلوجيات معينة، خاصة من أصحاب التيارات الإسلامية المتشددة، والذين أصبحوا يقيمون دورات تدريبية منتظمة للشباب لتبني أفكارهم المتطرفة، ونبذ الفن والثقافة واعتبارهما من المحرمات. وطالبت الورقة بضرورة التنسيق بين وزارات الثقافة والتعليم والشباب لرعاية المواهب، وسد هذا الفراغ الثقافي المحفوف بالمخاطر.

وطالب الباحث مدحت منير بضرورة البحث عن حداثة شعبية، يتم من خلالها إعادة النظر في كثير من المفاهيم والأفكار الثقافية، خاصة بعد أن استهلكتها مراحل ثقافية معينة، وكان من نتيجتها الخلط ما بين «الثقافة الشعبية والثقافة الجماهيرية»، مشيرا إلى أن خبرات الثقافة الشعبية تتمتع بحيوية متجددة، من حيث وقوعها في حيز الجماعة الشعبية، وتعبيرها المميز عنها ومنها وبها، بينما يقع مفهوم الجماهيرية في نطاق الثقافة الرسمية. وطالبت الورقة بضرورة إعادة النظر في المناهج التعليمية، وانفتاحها على الإبداعات الحديثة في الثقافة والعلوم والفنون، والتعامل معها من حيث كونها علما وليست آيديولوجيا مغلقة.