في مديح القصة القصيرة

فاضل السلطاني

TT

أجمع المعلقون، غربا وشرقا، على أن فوز أليس مونرو بجائزة نوبل للآداب لهذا العام هو إعادة اعتبار للقصة القصيرة، وهم محقون، من ناحية الشكل فقط. فهذا الفن النبيل، والصعب إلا على الخبيرين، شهد انحسارا ملحوظا لصالح الرواية، بعدما عرف ازدهارا كبيرا في الستينات والسبعينات، حتى تفرع منه، أو خرج من أحشائه، نوع أدبي آخر هو «القصة القصيرة جدا». ولكن ماذا عن جوهر الفن ذاته؟ هل يمكن أن نتحدث عن طول وقصر؟ وإذا لم يكن الأمر كذلك، لماذا هذا الانحسار المريع للقصة القصيرة؟ لماذا هجر قسم من الكتاب كتابة القصة القصيرة، وقد حققوا فيها نجاحا مشهودا، إلى كتابة الرواية، التي لم يرتفعوا فيها، في رأينا، إلى مستوى قصصهم القصيرة؟ أهي النظرة الدونية، وإن بلا وعي، لهذا الجنس الأدبي؟ أم أنها موجة كتابة الرواية التي جرفت كثيرين؟ أم أن الرؤية اتسعت فضاقت العبارة، إذا استعرنا تعبير النفري؟ ولكنه وهم آخر.

لنأخذ بعض الأمثلة العربية. لقد قدم لنا بهاء طاهر بداية السبعينات قصصا قصيرة جميلة، وخاصة في مجموعته «بالأمس حلمت بك»، التي ما نزال نتذكرها رغم مرور نحو أربعين سنة على نشرها، ورغم احترامنا لصاحب رواية «واحة الغروب»، الفائزة بجائزة بوكر للرواية العربية عام 2008، و«الحب والمنفى» وغيرهما، فإننا لا نجد أن «أصابع طاهر التي لا يستعيرها من أحد»، بتعبير يوسف إدريس، إلا في قصصه القصيرة. وحتى إدريس نفسه، من يستطيع أن ينسى أولى مجموعاته القصصية «أرخص ليالي»، التي رسم فيها، في صفحات قليلة، عالم القهر والذل والقسوة، وكذلك التحولات العميقة الخفية في المجتمع المصري، وخاصة في الريف. لقد اقترن إدريس منذ ذلك الحين في أذهاننا بقصصه القصيرة أكثر مما اقترن برواياته التي أصدرها لاحقا. وفي العراق، ما يزال محمد خضير مقترنا بقصته القصيرة «الأرجوحة» التي كتبها بعد حرب حزيران 67. والتي جسدت، في صفحات قليلة جدا، نتائج الحرب الكارثية أكثر من روايات كثيرة قرأنا ونسيناها، من خلال أحاديث فتاة صغيرة تؤرجح حقيبة تضم جسد الجندي العائد من الحرب مقتولا، ولكنه مهزوم أيضا. أما في سوريا، فلم نقرأ أعمالا روائية، وقد يكون الخطأ فينا، جسدت تجربة السجن الرهيبة، كما فعلت قصص إبراهيم صموئيل الصغيرة في مجموعته «رائحة الخطو الثقيل» الصادرة عام 1988. من خلال التقاطات صغيرة يعرفها كل سجين، لكن القاص عرف كيف يوصل، بكل تقشف، تقشف فضاء السجن وأجساد المسجونين وأرواحهم، الهجس بالقيمة الإنسانية الكبرى: الحرية.

وعالميا، من يستطيع أن يقول: إن «معطف» غوغول، الذي خرج منه كل الأدب الروسي، كما يقول دوستويفسكي، هو، بصفحاته القليلة، أقل أهمية من رواية غوغول الأخرى الضخمة النفوس الميتة؟ أو إن قصة «السيدة والكلب» لتشيخوف، أو قصصه الأخرى، ذات الصفحات الأربع أو الخمس، دون روايتي «الجريمة والعقاب» و«الأخوة كرامازوف» لدوستويفسكي؟ في كل قصة من قصص تشيخوف عوالم روائية كاملة، لكنه عرف، بموهبته الكبيرة، كيف ينقّيها ويشّذبها بما يتناسب مع عمله الفني، فلا تستطيل حتى تترهل، كما نرى في أعمال معاصرة كثيرة تقدم على أنها روايات، وفي حقيقة الأمر أنها قصص قصيرة شدّ ثوبها حتى تمزق، فلم تعد تعرف هوية من يلبسه.

مرة أخرى، لماذا اختفت القصة القصيرة أو تكاد من عالمنا؟ لماذا لم نعد نقرأ مجموعات قصصية؟ لأننا، كما يقول الحداثيون، نعيش «عصر التشظي»، الذي لا يمكن أن تستوعبه سوى الرواية، ويضيق به جسد القصة النحيف؟ أهو، مرة أخرى، زمن الرواية، ولكل زمن فنه؟ مهما تكن الأسباب، نعتقد أن الأمر لا يتعلق بالنوع نفسه، وأن الشيء الكثير يعتمد على المبدع في اختيار أداته التعبيرية، ولكن الشيء الأهم أن يحسن استخدامها، سواء أكانت قصيرة أو طويلة. وهذا يعتمد على ما يسمونه، خطأ أو صوابا: الموهبة.