أحفاد ابن بطوطة

فاضل السلطاني

TT

يبدو أن أدب الرحلة ما يزال مطرودا من خارطة السرد العربي، بعدما عرف ازدهارا في موروثنا الثقافي القديم، وما يزال محبوسا في كتبنا المدرسية في مادتي الجغرافيا أو التاريخ. لقد تعرض هذا الجنس الأدبي البالغ الأهمية، أكثر من كل الأجناس الأدبية الأخرى، لظاهرة الاستمرار والانقطاع طوال تاريخ الأدب العربي، كما أنه اتخذ أشكالا مختلفة ربما ساعدت على نفيه من أرض الأدب، منذ رحلة ابن فضلان في القرن العاشر الميلادي، وهي من أقدم الرحلات المكتوبة، إلى بلاد الصقالبة بتكليف من الخليفة العباسي المقتدر لطلب المعونة منهم، فاعتبرت رحلة سياسية أو دبلوماسية على الرغم من احتوائها على الكثير من عناصر السرد الأدبي. أما الرحلة الأشهر «تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار»، المعروفة برحلة ابن بطوطة، فكانت على النقيض من رحلة ابن فضلان، رحلة شخصية لرجل شغف بالسفر، فأمضى ثلاثين عاما من حياته متنقلا من بلد لبلد، من مكة إلى الصين والهند والسند إلى مصر والشام واليمن والسودان ليسجل لنا طبائع البشر ومجتمعاتهم، وعاداتهم فقدم مادة انثروبولوجية غنية لعلماء الاجتماع شرقا وغربا. ولهذا السبب ترجمت رحلته إلى مختلف اللغات الحية، واقترن اسمه بكل من يركبه الهوس، أو يشتاق لـ«اختراق الآفاق»، حسب تعبير الشريف الإدريسي، صاحب رحلة أخرى في القرن الثاني عشر، على الرغم من أن ابن بطوطة لم يكتب الرحلة بنفسه، وإنما كتبها ابن جزي الكلبي في مدينة فاس 756 هجرية.

وبعد العصر العباسي، حصل انقطاع طويل امتد حتى القرن التاسع عشر، حين عرفنا رحلات شهيرة منها رحلة أحمد فارس الشدياق إلى باريس، ورحلة رفاعة الطهطاوي الشهيرة «تخليص الإبريز في تلخيص باريز»، التي تمت بتكليف من محمد علي، ورحلة سليم بطرس إلى مالطا، ليعقبه انقطاع آخر غطى مرحلة طويلة من القرن العشرين وما يزال.

من هنا، لا بد أن يفرح المرء حقا بمشروع «ارتياد الآفاق» الذي أطلقه المركز العربي للأدب الجغرافي، الذي يحتفل هذه الأيام بمرور عشر سنوات على تأسيسه بالتعاون مع «مؤسسة دبي الثقافية»، في محاولة جادة لوصل ما انقطع، وبعث الحياة في أدب الرحلة، وإدخاله جنسا مستقلا بذاته إلى خارطة السرد الأدبي. وقد نشر هذا المشروع - الذي لم يحظ باهتمام واسع للأسف ربما بسبب النظرة الفوقية لقسم كبير من كتابنا، الموروثة منذ حقب طويلة لهذا النوع من الأدب - 328 كتابا، موضوعا ومترجما، وعددا ليس قليلا من المخطوطات القديمة والوسيطة التي تنتمي إلى أدب الرحلة والأدب الجغرافي عموما، ونظم ندوات متخصصة في أكثر من بلد عربي، بالإضافة إلى تخصيص جائزة سنوية باسم جائزة «ابن بطوطة»، التي فاز بها 61 كاتبا بدءا من عام 2003. وقد وسعت مجالات الجائزة في السنوات الأخيرة، فشملت أدب اليوميات أيضا، وهو الآخر غائب من نتاجنا الثقافي للأسف.

هل يمكن أن نتحدث الآن عن «أدب جغرافي»، أو إعادة بعث لهذا النوع من الأدب ليشكل نصا له حضوره إلى جانب أشكالنا التعبيرية الأخرى؟ هل يمكن أن نتحدث عن «أبناء بطوطة المعاصرين»؟ الوقت ما يزال مبكرا بالطبع. ولكن الأهم أن نتحرر من نظرتنا القاصرة لهذا الشكل التعبيري الغني، الذي عرفته وواصلته كل الأمم المتطورة، باعتباره نصا حيا عن الآخر، وطريقا لحواره ومعرفته، وبالتالي معرفة أنفسنا.