أين مساهمة «العربية» في مجتمع المعرفة العالمي؟

اللغة مهددة بالانحسار في دول الخليج وسط زحف العمالة الأجنبية

شعار اليوم العالمي للغة العربية
TT

احتفت السعودية يوم الأربعاء الماضي باللغة العربية في يومها العالمي الذي يوافق يوم الثامن عشر من ديسمبر (كانون الأول) من كل عام، ونفذت المؤسسات الثقافية والوزارات والجامعات ومراكز وكراسي الأبحاث عددا من المشاريع والمناشط المختلفة احتفاء بهذه المناسبة. وقدمت الجهات ذات الطابع الثقافي مقترحات ومشاريع لخدمة لغة الضاد وتأصيل المحافظة عليها وإبراز جماليتها وتعلم قواعدها.

ويوم اللغة العربية العالمي هو اليوم الذي تم فيه إقرار اللغة العربية لغة رسمية في الأمم المتحدة واقترحته السعودية على منظمة اليونيسكو، وتمت الموافقة عليه عام 1973.

* بن تنباك: ظاهرة تبلبل الألسن

وبمناسبة هذا اليوم، تحدث لـ«الشرق الأوسط» عدد من المختصين في اللغة والنقد، مطالبين بمشاريع من شأنها أن تساهم في حماية اللغة العربية، وتمكينها من الإسهام في مجتمع المعرفة والنهوض بها، والقضاء على المخاطر التي تواجهها، ووضعها في مكانتها التي تليق بها، وتشخيص العلل والعراقيل التي تحول دون انتشارها، وجعلها لغة عالمية، مشددين على أن الاحتفالية بيوم اللغة العربية العالمي لا يكفي للوصول إلى الأهداف الكبيرة لجعل اللغة العربية عالمية وذات انتشار واسع ومقبول.

يقول الدكتور مرزوق بن تنباك أستاذ النقد الأدبي والباحث المعروف: «اللغة ليست ذكرى نحتفي بها في يوم ثم تمر الأيام لنتذكرها في العام التالي. اللغة هوية أمة وشخصية مجتمع تلازمه وتعيش معه في كل أيامه ولياليه وتعبر عن آماله ورغباته وليست اللغة للتواصل فحسب وإلا لأمكن أن يتواصل الناس حتى بالإشارة العابرة لكن وظيفة اللغة أسمى من أن تكون كذلك».

موضحا أن «الأمم والشعوب عرفت خاصية اللغة التي ينتمون إليها ويعبرون بها عن وجودهم وتميزهم عن غيرهم ولهذا حافظت كل أمة على لغتها ونالت عناية أبنائها واهتمامهم بها»، مضيفا أن «أهم وظيفة للغة هي تعلمها والتعليم بها والمحافظة على ديمومتها والعناية بها حتى تكون عالية المعنى قوية الأداء في المحيط الذي تسود فيه. وأهم ثلاثة أعمدة تقوم عليها وحدة الدولة، هي الأرض التي تعيش عليها، واللغة التي تتكلمها، والثقافة والقيم التي تسود فيها».

وأضاف بن تنباك: «اللغة كائن حي يحتاج للرعاية والعناية والتغذية الجيدة التي بها تنمو وتقوى، والحماية من الأمراض التي تضعفها أو تنال من مكانتها. وأخطر مرض يصيب اللغة ويفتك بها هو تبلبل الألسن في محيطها اللغوي».

واعتبر ابن تنباك «أننا في الخليج نعيش حالة تبلبل الألسن حيث يقيم معنا ملايين الناس أكثر منا عددا يتكلمون لغات شتى وكان الأولى أن تكون العربية في بلادها هي الوسيط لهذه الألسن مثلما هو حاصل في كل دول العالم فمن يقيم في أي دولة يتواصل مع الناس بلغة البلد الذي يقيم فيه إلا نحن في الخليج حيث تخلينا عن هذا الحق للغتنا وأعطيناه للغة الغريبة علينا (الإنجليزية) فأصبحنا نحن ومن يقيم معنا في بلادنا وفي محيط لغتنا العربية نتواصل بغير لغتنا وهو تنازل عن حق من حقوقنا يصيب لغتنا في مقتل».

وشدد بن تنباك على أن دول الخليج في وضع حرج من حيث التركيبة السكانية فالأغلبية من غير العرب وأكثرهم ولد وعمل ونشأ في الخليج (..) فإذا لم تكن اللغة العربية والثقافة العربية هي الرابط بين هؤلاء السكان من العرب وغيرهم فستكون اللغة الأجنبية هي البديل.

وخاطب أستاذ النقد الأدبي أهل الخليج بالقول: «أؤكد لكم يا أهل الخليج ويا من اختار التعليم باللغة الأجنبية أنكم ستحتاجون يوما ليس ببعيد إلى البحث عن إثبات هويتكم العربية أمام دعوى السكان الجدد بهوية أخرى ولن تجدوا غير اللغة العربية لغة وثقافة والخيار ما زال في أيديكم، فاختاروا إما أن تكون العربية هويتكم أو أن تكون هويتكم هوية السكان الجدد الذين سيغلبونكم عددا وسيكون معهم من هو أقوى منكم».

* الوشمي: أين التنسيق؟

ومن جانبه أوضح لـ«الشرق الأوسط» الدكتور عبد الله بن صالح الوشمي الأمين العام لمركز الملك عبد الله بن عبد العزيز الدولي لخدمة اللغة العربية: «إن الذي يهمنا في المركز هو أن نؤسس لنظرة حديثة إلى اللغة العربية، من حيث إنها لغة التواصل الدائم، وأن يجري الربط الوثيق بين علومها وحاجات السوق، فلا يُعقل بتاتا أن يتعلم طالب اللغة العربية فصولا طويلة في الصرف وأبوابا عميقة في النحو، ولكنه يتجه إلى السوق، وهو لا يعرف أن يحرر خطابا، أو يرصد وقائع اجتماع، أو يصحح وريقات، لأنه لم يدرس العربية على هذا النحو، وعلى هذا يجري التحضير للقاء (العربية وسوق العمل)».

ويضيف: أن اللغة العربية حية في ضمائر الناس ورؤاهم، ولذلك فجزء رئيس ممن خدمها إنما جاء من خارج بيتها الأكاديمي، وهذا يدل على أن العربية ليست وظيفة شخصية لأحدهم، وإنما هي رسالة للجميع، وتبعا لذلك نقول: «إن شابا يعرب برامج الأجهزة الذكية قد يخدم العربية أكثر من مجموعة من الباحثين النظريين».

ورأى الوشمي: «إذا كان للإعراب قيمة عليا في بناء النحو وفلسفته، فيجب أن نؤكد على أن اللغة العربية أكبر من الإعراب، فهي الأصوات والدلالة، مع ضرورة عليا لتوسيع النظر في مجال التعريب وفصاحة الكلام، فليست اللهجات كلها تعاند العربية، وليس حديث الناس بينهم بعاميتهم نذير شؤم أو خطر كارثي ما دام في نطاق ضيق متداول، ولم تعد تحتمل العربية أكثر مما مضى في مسألة غياب المعاجم الدورية الراصدة والمتابعة للجديد من المفردات».

وأشار الأمين العام لمركز الملك عبد الله بن عبد العزيز الدولي لخدمة اللغة العربية أن هناك مؤسسات لغوية كثيرة في المملكة العربية السعودية وفي خارجها، ولبعضها أعمال جليلة، ولكن لا يوجد تعارف بينها ولا تنسيق مشترك، وتساءل الوشمي: «لك أن تتخيل أن معهدا لتعليم اللغة العربية للناطقين بغيرها يؤسس في مدينة مثل الرياض أو جدة وقد لا يستفيد من المعهد الذي في مدينته وقد أسس قبله بثلاثين سنة، وأن مشروعا مميزا مثل (المدونة اللغوية) في مدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية، لا يعلم عنه بعض الأكاديميين في أقرب الجامعات إليها، وأن موسوعة الملك عبد الله للمحتوى العربي الصحي لا يعلم عنها أغلب اللغويين والأطباء، وأن العربية التفاعلية في جامعة الملك سعود، والخطة الاستراتيجية لكلية اللغة العربية في جامعة الإمام ربما لم يسمع عنها بعض اللغويين والمعنيين في المملكة فضلا عن خارجها، إضافة إلى أن جهود المؤسسات اللغوية تنحصر غالبا في داخلها».

وأضاف الوشمي بالقول: «ومن هنا يجتهد مركز الملك عبد الله بن عبد العزيز الدولي لخدمة اللغة العربية في السنة والنصف من عمره أن يقوم بعدد من المسارات التي تحقق هذه الرؤية، وهي التحفيز والتكامل والشراكة والتنسيق، ولذلك نفذ في بداياته برعاية خادم الحرمين الشريفين (الملتقى التنسيقي للجامعات والجهات المعنية للغة العربية في دول الخليج العربي)»، وأشار الوشمي إلى أن المركز أطلق مشروعين الهدف منهما تحفيز المؤسسات وصناعة واقع لغوي مغاير، وهما: (جمع توصيات المؤتمرات والملتقيات والندوات المعنية باللغة العربية منذ خمسين عاما)، وذلك لصناعة تحد أمام المؤسسات اللغوية وتنفيذ مواجهة مباشرة مع التوصيات المتراكمة في هذا الإطار، إضافة إلى مشروع (مكنز القرارات والأنظمة واللوائح والأوامر والتعاميم الخاصة باللغة العربية) الذي بدأ في نطاق سعودي بهدف الجمع ثم الفرز والدراسة، ومتابعة تنفيذ هذه القرارات، ونقل المميز منها من قطاع حكومي إلى آخر، وذلك بهدف تمكين العربية في مختلف المجالات، ملمحا إلى أن اللغة مثل العُملة إنما تقوى وتزداد قيمتها بكثرة استخدامها.

وفيما يتعلق بمسار الشباب أكد الوشمي على أن الشباب هم جزء رئيس من الحل، وليسوا جزءا من المشكلة فحسب، لافتا إلى أن المركز معني بالمبادرات التقنية في خدمة اللغة العربية، وأن القائمين عليه يحاولون أن يضعوا إطارا محكما في هذا الشأن.

* القاضي: أعيدوا للعربية موقعها

وفي ذات السياق أكد حمد بن عبد الله القاضي عضو الجمعية العلمية السعودية للغة العربية على أن اللغة العربية تعيش واقعا لا يسر وهناك تجاهل لها، معتبرا أن الاحتفاء الحقيقي بهذه اللغة أن يعاد لها موقعها.

وقال القاضي لـ«الشرق الأوسط»: «جميل هو الاحتفال بلغتنا العربية في يوم تكريمها بيومها العالمي احتفاء بها وتذكيرا بمكانتها وتوعية بضرورة التمسك بها وعقد الندوات والمناشط بالمنابر، لكن الأجمل أن يعضد ويوثق هذا الاحتفال بلغتنا بمنجز على الأرض وتحويل الرأي إلى رؤية والآمال إلى آليات!».

وأضاف: «نريد الاحتفال الأهم بأن نعيد لها موقعها، وكينونتها في بلادها العربية»، مشددا على أن لغة الضاد تعيش واقعا لا يسر «فهناك تجاهل لها، بل ونفور منها.. لغتنا رمز هويتنا ولا بد أن نراها نغما جميلا على ألسنة طلابنا، ومهم أن تكون لغة شركاتنا ومؤسساتنا حديثا وكتابة كما هو المعمول به مع كل لغة يعتز بها أهلها».

وعبر عضو الجمعية العلمية السعودية للغة العربية عن ألمه في أن نجد في بلادنا والبلاد العربية عامل البدالة، والنادل وموظف الاستقبال في الفنادق والشركات يخاطبك بغير لغتك، متسائلا: «كيف نجد فواتير الحساب تكتب باللغات الأخرى، وكيف نرى لافتات بلغة أجنبية تتصدر واجهات الشوارع ووجوه المدن؟».

واعتبر القاضي أن الاحتفال الحق، والحب الحقيقي للغتنا الجميلة هو أن نجعلها لسان حديثنا وحرف كتاباتنا وواجهة مدننا.