أركون.. من التوحيدي إلى فوكو

خاض معارك قاسية في الشرق والغرب

محمد أركون
TT

حين تستمع إلى محمد أركون (1928 - 14 سبتمبر/ أيلول 2010) وهو يردد على ناشر ومترجم فكره هاشم صالح مقولة أبي حيان التوحيدي: «لقد أشكل الإنسان على الإنسان» ترتسم على محيّاه ابتسامة إعجاب بهذه المقولة التي تلخّص صلب مشروعه. وإذا كانت مهمة الحداثة مناقشة الإنسان بوصفه موضوعا، فإن منطلقات أركون «ما بعد الحداثية» تضع الإنسان على مشارط النقد والتشريح بوصفه «إشكالية» على النحو الذي بدأتْه فلسفات الاختلاف، والتي درست الجنون والعقاب والسجون ضمن المفاهيم الفلسفية الحديثة وأشهرها تلك التي تطوّرت في ورشة ميشال فوكو، وأخصّ منها مفهوم «الأركيولوجيا».

منذ أوائل الثمانينات وأركون يؤسس لبناء مشروعه الذي قرر أن يفحص من خلاله مشكلة الفكر الإسلامي بكل تفريعاته، لهذا كانت أطروحاته منذ بداياته مرورا بأطروحاته الأكاديمية تمسّ عصب ذلك الفكر بغية مساءلته ومناقشته وتشريحه؛ لا لهدمه وإنما لإيجاد نقاط تشكّل إمكانات للتجاوز أو القطيعة طبقا لمخرجات البحث الذي يمارسه.

أركون «صديق المفاهيم»، فهو فيلسوف بحق على طريقة تعريف جيل دلوز للفلسفة.

في كتابه الأخير «التشكيل البشري للإسلام» والذي يشبه المذكرات المفتوحة، والنقاش الحر يتحدّث عن طفولته وركضاته الأولى في القرية، كان والده بقّالا يمارس التجارة بانفتاح، فلا عقد لديه مع اليهود، كما أن أمازيغيته لم تمنعه من حفظ القرآن في أوائل العقد الثاني من عمره، غير أن الرضّة التي أثّرت في أركون حتى وفاته كانت الحرب الجزائرية تحديدا وحروب الاستقلال عموما، وهو في كتبه الكثيرة: «نزعة الأنسنة في الفكر العربي، الفكر الأصولي واستحالة التأصيل، تاريخية الفكر الإسلامي، معارك من أجل الأنسنة» وسواها إنما يشق طرقا جديدة في تاريخ الفكر العربي. فهو ليس امتدادا لعصر النهضة أو لإحراجات طه حسين، أو للنقد الذي يمارس داخل التراث كما هو حال نصر حامد أبو زيد أو محمد عابد الجابري، كما أنه لا يؤسس هامشا على المتن كما يفعل حسن حنفي. كتبه ليست حشوا أو نقدا مبوّبا أو مسيرة خيطية منهجية، بل هو نثار ورشة كبرى كان يعلم أركون أنه لن يكملها، لكنه أراد أن يفتتحها.

تأثر أركون بـ«جينالوجيا» نيتشه، و«أركيولوجيا» فوكو، وحرص على درْس مخاتلة النص وتفكيكه وإتيانه من حيث لا يحتسب على النحو الذي شقّه دريدا، كما مارس الفلسفة بوصفها صداقة للمفاهيم على طريقة دلوز متجاوزا تاريخها أو نظريتها الشمولية التي قبضت عليها نظرة هيغل الشمولية. أسس مفاهيم خاصة به مثل «المخيال» أو «اللامفكر فيه»، متجاوزا «اللاوعي» الفرويدي. وربما كان مشروع أركون مختصا بخصائص ثلاث لم تتوافر بهذا الوضوح في مشروع آخر في المرحلة العربية المعاصرة:

أولها: حين يؤلف أركون كتابا فإنه لا يطرح إجابة ناجزة، وإنما يخترق حصنا منيعا، أو يتهم بدهية، أو يحدث إحراجا، ومن ثم يصحب طرح كتابه سيلا من النقد والتعليق والتعقيب، أركون يمارس الفكر لا بوصفه مدرسة وإنما بوصفه حدَثا يولّد أحداثا. كتبه ليست مغلقة، ونصوصه ليست منجزة، وورشته لم تغلق بابها معلنة انتهاء معضلة أو طرح إجابة، يتّضح هذا بقراءة المراجعات النقدية على مشروع أركون ممثلة بأبحاث المفكر اللبناني علي حرب الذي يتقاطع مع أركون في مفاهيم فلسفات الاختلاف غير أنه يخالفه في الإجراءات والتمرينات والمساءلات والاقتراحات.

ليس صحيحا أن أركون صاحب مشروع لم ينجز، بل الإنجاز يخالف آليات أركون نفسه، فإنجاز مشروع أركون هو هدمٌ لمشروعه. لأنه آمن بأن مهمة الفلسفة ليست أن تطرح أجوبة بقدر ما تثير الإحراج عبر إجادة نحت الأسئلة المضيئة المزلزلة.. أسئلة علمية ضمن أدوات ومفاهيم لا ضمن غضب أو رفض محض.

ثانيا: تجاوز أركون الأداة «الفيللوجية» المعتمدة على الرواية، ليتدخّل في التاريخ بوصفه مستودع وثائق تحتاج إلى فحص، إنه ينطلق من اطلاعه التاريخي لجمع الوثائق التي تمكّنه من فحص تاريخ القطائع أو التحولات في التاريخ العربي، هذا الحفر في طبقات الحقيقة الاجتماعية المؤسّسة للدوغمائية الاجتماعية أكثر تأثيرا، لهذا اختار مجموعة محددة من النصوص لقراءتها ومساءلتها وفحصها، كما في كتابه المهم «تاريخية الفكر الإسلامي». التاريخ لديه حمّال وثائق والمؤرخ والناقد إنما يقتنص الوثيقة التي يحتاجها ضمن أداته النقدية وعدّته المفهومية كما فعل ميشال فوكو. هذه الخاصّية لدى أركون تميّزه عن المؤلفات النقدية التي شاعت منذ أواخر السبعينات من القرن الـ20.

ثالثا: لم ينتمِ أركون كما في حديثه عن حياته إلى أي آيديولوجيا سائدة في شبابه آنذاك، سواء شيوعية أو إسلامية أو عروبية، بل عجنتْه الورش الأكاديمية واستفاد من علاقاته بالفلاسفة آنذاك، ومنحتْه فرصة الإقامة في باريس، ومن ثم مهمة التدريس في السوربون قدرة فائقة على ركوب موجات الحداثة الفائقة التي عاصرها في عزّ شبابه وفي عزّ وهجها، مما أسهم في تشكيل مؤلفاته وأبحاثه واقتراحاته وإحراجاته ومفاهيمه العتيدة.

من الصعب اختزال صخب أركون وحياته التي تجاوزت الـ80 عاما، ومؤلفاته التي تربو على الـ30 كتابا في زاوية مختصرة، غير أن هذا المفكر يستحق أن يكون ضمن مواقع الدرس والتحليل باستمرار، لأنه مفكّر راهنٌ ولا يلبث أن يجدد راهنيته رغم رحيله. كان محاربا على جبهات عدة، قبل موته كان معجبا بمقولة كررها كثيرا يرويها عن عبد القادر الجيلاني: «نازعتُ الحق بالحق للحقّ». لقد أخذته كثيرا فضاءات التصوّف وسقُف الوجود.