جدل الإسلام السياسي في «الجنادرية»

النسخة الـ29 تفتح الملف وعلاقاته بالدولة الوطنية

مرزوق بن تنباك - معجب الزهراني - خالد الدخيل
TT

يأتي محور النقاش الثقافي الذي شرّع له «الجنادرية 29» أبوابه هذا العام، منسجما مع الجدل الذي أحدثه صعود حركات الإسلام السياسي في العالم العربي. هذا الصعود الذي أحدث خضات عنيفة أصابت استقرار المنطقة برمتها.

وارتبط صعود التيارات الحركية الإسلامية في البلدان العربية بالحقبة التي أعقبت نكسة يونيو (حزيران) عام 1967. وفي حين ظلت هذه الحركات في حالة صراع سياسي مع دولها، فإن حدثا آخر أنعش دورها تمثل في ما يسمى بالربيع العربي الذي استفادت منه هذه الحركات في تحسين ظروفها، وقدر لها أن تتسلم السلطة في اثنتين على الأقل من دول الربيع العربي هما تونس ومصر، وأن تشارك بقوة في دولتين أخريين هما ليبيا واليمن.

ومنذ انطلاق فعاليته، عبر خمس ندوات متتالية يشارك فيها نخبة من المفكرين العرب، يولي «الجنادرية» خلال دورته الـ29 أهمية بالغة لهذا الملف.

بدورها، استطلعت «الشرق الأوسط» آراء مفكرين ومثقفين وباحثين ومتابعين للحديث عن مسألة الإسلام السياسي وتأثيراته على المشهد الثقافي والفكري، والأثر الذي تتركه هذه الحركات على المشهد العام.

* توظيف الدين لتجميل السياسة

في حديثه عن نشأة الحركات الإسلامية، يوضح الدكتور مرزوق بن تنباك الباحث والناقد السعودي، أن الإسلام دين، والسياسة عمل، وإضافة السياسة للإسلام توظيف للدين لتجميل السياسة، قائلا: «لقد دار هذا المصطلح (الإسلام السياسي) وصفا للعمل السياسي المتلبس بالدين منذ نشط الحركيون السياسيون ذوو التوجه الإسلامي الذين يعلنون أن برنامجهم السياسي موافق لمقتضيات الإسلام». ويضيف أن «هذا المصطلح (الإسلام السياسي) لم يكن متداولا إلا بعد هزيمة 67 حين سقط في تلك الهزيمة المشروع القومي الذي أعقب الانقلابات العسكرية في الوطن العربي.. فكانت قسوة الهزيمة وتسلط الأنظمة الشمولية قبلها باعثا قويا للبحث عن مسار آخر ينقذ ما يمكن إنقاذه، وكانت القوى الشعبية الكامنة مهيأة نفسيا واجتماعيا وسياسيا لاتجاهات أخرى باحثة عن الخلاص من الأنظمة القومية وديكتاتوريتها. فكان الخيار الممكن هو خيار العودة للثوابت والرجوع إلى الإسلام الذي تستجيب له الشعوب الإسلامية. وقد تلقفت الأنظمة المحافظة التي هزت الدعوة إلى القومية العربية قواعدها، مشروع الإسلام السياسي وأخذت به وشجعت المنظرين له وعملت على استغلاله والذهاب به إلى الآيديولوجيا السياسية».

وتابع بن تنباك: «وقد اعتمدت هذه الأنظمة على نوعين من المثقفين، الأول: المثقفون الإسلاميون الذين طحنتهم الثورات العسكرية القومية، والثاني: المثقفون القوميون الذين أدركوا بعد الهزيمة أن مستقبلهم هو القفز إلى خط الفريق الأول، وبرع الفريقان بالتنظير للإسلام السياسي، وقد أصبح أكبر منظري الاتجاه الإسلامي منهما. وانطلق هذان التياران تحت غطاء أضفته عليهما الدول العربية المحافظة، مما جعل هذا الغطاء سميكا إلى حد الدفء وظليلا إلى حد البرد المنعش. عاد هذان التياران إلى التراث الإسلامي الهائل وبدأوا في تفكيكه إلى أولويات ومقاصد، ومن هنا انطلقت حركة الإسلام السياسي بتشجيع من بعض الدول».

وحول تأثير النقاش حول دور حركات الإسلام السياسي على الصعيد الفكري والثقافي، يقول بن تنباك: «لا شك أن الجو المشحون اليوم بين كل التيارات الفكرية والثقافية، إسلامية أو غير ذلك، لن يترك مساحة مريحة تشجع على القبول والتسامح المطلوب.. ولا سيما أن أجواء الخلاف هي الأقوى في هذه المرحلة وأن التنازع ظاهرة غير محكومة بضابط فكري أو علمي وهو ما يدركه المتابع للتوجه العام».

* الدين ليس آيديولوجيا

ويذهب الدكتور معجب الزهراني، وهو أكاديمي وناقد سعودي، إلى القول: «كنا ولا نزال رهائن ثقافة تقليدية تغري كل أحد بقول أي شيء عن أي قضية دونما روية أو تفكير، والثقافات التقليدية كلها تشتغل هكذا»، مذكرا بهذه الوضعية التاريخية العامة لأنها تمثل جذرا عميقا لمعظم المشكلات التي تعانيها مجتمعاتنا العربية ولا تدرك مصادرها وأسباب الخروج منها. ويضيف: «لعل طرح مسألة الإسلام السياسي تبين وجاهة ما أقول ولو عن بعد وبإيجاز شديد. فاستعمال الدين في السياسة ظاهرة لم تنقطع منذ ما عرف بدولة الخلافة الراشدة إلى الوقت الراهن ودولته التي تسمى قومية أو وطنية ولو على سبيل المجاز. ولا كبير فرق هنا بين أن يستعمل الدين في عمومه أو في أشكاله المذهبية أو في أشكال حزبية تنتمي للمذهب ذاته».

وأضاف الزهراني قائلا: «من هنا علينا ألا نختزل الأمور في اللحظة الراهنة وننسى التاريخ. وبناء عليه، أرى كمثقف وأكاديمي منشغل بتحليل الخطابات الثقافية أن الحل لا يمكن أن يكون جزئيا أو توفيقيا. فالمشكلة الصغيرة العابرة ظاهرا هي إشكالية كبيرة في العمق. والدولة العربية الراهنة إما أن تستعير منطق الدولة المدنية الحديثة التي تفصل بين السلطات وتحترم القانون وتؤمن لمواطنيها حقوقا متكافئة في ظل مبادئ الحرية والعدالة والمساواة، وإلا فلنستعد جميعا للمزيد من التوترات».

وزاد بالقول: «نعم، لا شك لدي في أن الدين حاجة أولية للبشر، وأن المقدس، كالجميل، من أرقى الثقافة في كل زمان ومكان، لكن تحويله إلى آيديولوجيا رسمية للدولة هو لعبة خطرة لا يحكمها سوى منطق القوة والغلبة الذي يعمل اليوم لصالح فئة وغدا لصالح أخرى».

وذكّر المحاضر في هذا السياق بأنه حينما طالبت أجيال من الباحثين والمثقفين العرب، مسلمين ومسيحيين، بفصل الدين عن الدولة، فإن «هذه الدعوة تعني في ما تعنيه إعادة المعتقدات كلها إلى المجتمع، بل وإلى الفرد الشخص العاقل الحر المكلف، عسى أن تساهم في تنمية ما فيه من عناصر الخيرية والتقوى والصلاح في القول والعمل. ولمن يكره ضرب المثل بمنظومة الدول الديمقراطية الغربية التي لم تجاف الدين قط أو تمنعه عن مواطنيها، أيا كانت معتقداتهم، فما عليه سوى التأمل بهدوء في أحوال ماليزيا والسنغال وتركيا. فهذه دول إسلامية بحكم أن غالبية مواطنيها مسلمون يؤمنون بالله وملائكته ورسله وبالقدر خير وشره، لكنها استعارت منطق الدولة الحديثة بكل جدية فحسمت القضية، ولا أظن أن نخبها الفاعلة تتمنى العودة إلى نماذج باكستان وإيران والسودان، فضلا عن أفغانستان طالبان».

وخلص الزهراني إلى التأكيد على أن هناك خيارات متنوعة حتى في أشكال الدولة المدنية الحديثة، واتخاذ القرار الصائب في اللحظة التاريخية المناسبة عادة ما يكون مكلفا للنخب الحاكمة وصادما للمجتمع، لكنه يظل أفضل الخيارات أو أقلها سوءا وذلك يكفي البشر الذين لا يطمعون في منافسة الله جل شأنه على شيء من قدراته المطلقة.

* الحل في التعددية

وشدد الدكتور خالد الدخيل، الكاتب والباحث السعودي، على أهمية أن نفرق عند تناول هذه المسألة «بين الإسلام السياسي غير الإرهابي، والإسلام السياسي الإرهابي، والأخير ليس له مكان هنا وليس معنيا بما يشار إليه أو نتحدث عنه لأنه إسلام مدمر، وتأثيراته سلبية، لذا فعند الإشارة إلى الإسلام السياسي فهو موجه إلى الإسلام السياسي غير الإرهابي».

وشدد الدخيل كذلك على أهمية النظر إلى البيئة السياسية التي يعمل فيها هذا الإسلام السياسي، موضحا أنه «إذا كانت البيئة السياسية تقوم على الإقصاء والإبعاد حسب المصلحة السياسية فليست كل الحركات المصنفة في إطار هذا المفهوم تأثيرها سلبي».

وأضاف قائلا إن «الإسلام السياسي الإقصائي يبقي الحال كما هي، وإذا تغيرت البيئة السياسية العربية وأصبحت أكثر تقبلا للرأي الآخر، وأكثر تقبلا للتعددية، فإن ذلك يؤدي إلى أن يكون تأثير الإسلام السياسي وغيره من الحركات أكثر إيجابية، وعندها يكون للبيئة السياسية بهذه المواصفات الحق في أن تضرب بيد من حديد على كل من يهدد هذه البيئة أو يخترقها أو يقفز عليها سواء كان إسلاما سياسيا أو غير سياسي، كما أن ذلك ينسحب على كل من يستقل التعددية وينشر الفكر المتطرف أو يسكّت الآخر أو أن يستخدم أدوات الإقصاء أو التكفير، أو أن يجعل الحرية في مناخ التعددية مجالا له وورقة يلعب بها».

وأكد المحاضر على أهمية أن تسير التعددية إلى مداها الطبيعي، موضحا في هذا الصدد أن البيئة السياسية في أوروبا القرن السابع كانت هي ذات البيئة العربية حاليا، لكنها جعلت من التعددية مكونا طبيعيا لها وسارت بها (أي التعددية) إلى مداها الطبيعي، لافتا إلى أن الإسلام آمن بالتعددية من خلال تأكيدات القرآن الكريم على عدم إكراه الناس على الدين.

أما في البيئات العربية، كما قال الدخيل، فتكمن الإشكالية أو المعضلة في مسألة كيفية جعل التعددية المكون الطبيعي والأرضية التي تنطلق منها الحلول للخلاص من هذه المشكلة من دون اللجوء إلى المناكفة التعددية. وهو يرى أن الحل في أن تنفتح البيئة الاجتماعية السياسية لقبول التنوع والتعددية لأنهما مصدرا الغنى الثقافي والسياسي والقانوني والاجتماعي وغيرها.

* الجنادرية: خمس ندوات لباحثين سعوديين وعرب

* يهيمن محور حركات الإسلام السياسي والدولة الوطنية على النشاط الثقافي للمهرجان الوطني للتراث والثقافة (الجنادرية 29)، إذ بدأت أمس أولى الندوات في هذا المحور بإقامة ندوة بعنوان «حركات الإسلام السياسي والدولة الوطنية: الخطاب والواقع» أدارها الدكتور سليمان الضحيان (السعودية) وشارك فيها الدكتور مختار نوح (مصر)، والدكتور مهند مبيضين (الأردن)، والدكتور رشيد الخيون (العراق)، والدكتور عبد الملك أحمد آل الشيخ (السعودية).

كذلك أقيمت أمس (الجمعة) ندوة: «حركات الإسلام السياسي والدولة الوطنية: السعودية والتيارات السلفية في العالم العربي.. التوافق والاختلاف»، وأدارها الدكتور أحمد عثمان المزيد (السعودية)، وشارك فيها الشيخ الدكتور صالح بن حميد (السعودية)، والشيخ أحمد ولد المرابط (موريتانيا)، والشيخ داعي الإسلام الشهال (لبنان)، والدكتور عبد الحكيم أبو اللوز (المغرب).

وهذا اليوم السبت، تعقد ثلاث ندوات في هذا المحور، الأولى بعنوان: «حركات الإسلام السياسي والدولة الوطنية.. التحولات السياسية في الوطن العربي: رؤية من الداخل»، يديرها محمد رضا نصر الله (السعودية)، ويشارك فيها كل من الدكتور محمود جبريل (ليبيا)، والدكتور ضياء رشوان (مصر)، والدكتور مهدي مبروك (تونس)، والدكتور نجيب غلاب (اليمن)، والدكتور ثروت الخرباوي (مصر).

وتنظم مساء اليوم أيضا ندوة بعنوان: «حركات الإسلام السياسي والدولة الوطنية.. حركات الإسلام السياسي ومفهوم المواطنة»، يديرها الدكتور عبد الله البريدي (السعودية)، ويشارك فيها الدكتور يوسف مكي، وبدر العامر (السعودية)، والدكتور جمال سلطان (مصر)، والدكتور عبد الحميد الأنصاري (قطر).

وتعقد ندوة أخيرة بعنوان: «حركات الإسلام السياسي والدولة الوطنية.. وتجربة السلطة والحكم» يديرها الدكتور زهير الحارثي (السعودية)، ويشارك فيها الدكتور أبو يعرب المرزوقي (تونس)، والدكتور عبد الله النفيسي (الكويت)، وأيمن الصياد (مصر)، والدكتور ضياء أونيش (تركيا)، والدكتور ولي نصر (أميركا).