كتب.. وكتب

فاضل السلطاني

TT

هل قراءة كتب كثيرة تجعلك شخصا أفضل، أو أكثر حكمة؟ يتساءل البروفسور جون كيري، أستاذ اللغة الإنجليزية في جامعة أكسفورد، في كتابه الجديد «حياة في أكسفورد مع الكتب»، ويجيب صائبا: نعم، ولا. وجون كيري، أولا، مؤهل لإطلاق حكم. فقد استعرض، لمدة أربعين سنة، كتبا لجريدة «صنداي تايمز» البريطانية. وأجرى لقاءات كثيرة مع أبرز شعراء جيله مثل و.هـ. أودن، وروبرت غريفز، وشيموس هيني، وفيليب لاركن. وهو مؤلف كتب كثيرة كفلت له مكانة مرموقة في النتاج الثقافي البريطاني، وخاصة كتابه «المثقفون والجماهير».

ولنعد إلى «نعم» و«لا». الكتب، بالطبع، أنواع. فهناك كتب ترتفع بك إلى سماء المعرفة، وكتب أخرى تهبط بك إلى الحضيض. كتب تغذيك إلى أبد الدهر، وكتب تمتصك حتى لا تبقي فيك دما، خاصة إذا كنت ضعيف المناعة. وإذا كان المرء مضطرا لقراءة مثل هذه الكتب، بحكم كونه ناقدا، أو محررا في صفحة ثقافية، فليكن الله في عونه!

وهناك كتب، كما يسميها فلوبير، «كتب بشرية». وهي تلك التي قد تمحق ذواتنا الأولى، معيدة بناءها وتشكيلها جوهريا من جديد، خالقة ذوات أخرى، أو طبيعة ثانية لنا. إنها قابلة ولادتنا الثانية، بتعبير الشاعر الألماني غوته، الذي ترك لنا الكثير من الكتب البشرية، وخاصة «فاوست»، إنها كتب غيرت البشرية والشخصية الإنسانية منذ الملحمة الأولى «كلكامش»، إلى الإلياذة، مرورا بـ«دون كيشوت»، وكتب التنوير الكبرى التي ولّدت الثورة الفرنسية، فولد العالم الجديد، وصولا إلى أعمال بودلير وتولستوي ودوستويفسكي، وغيرهم من الكتاب، الذين يسميهم ستيفان زفايج «بناة العالم»، في كتابه الموسوم بهذا الاسم، الذي ترجمه إلى العربية الراحل نجيب المانع بداية السبعينات من القرن الماضي.

ولكن هناك أيضا «كتب خطيرة» قد تدخلنا إلى المصحات العقلية إلى الأبد. كان أنطون تشيخوف، الذي ينتمي إلى بناة العالم أيضا، يخاف أن يقرأ كتب دوستويفسكي حين كان شابا. ويذكر، في إحدى المقابلات معه، أنه قرأ صاحب «الجريمة والعقاب» و«الإخوة كارامازوف» و«الشياطين» بعد الأربعين، وترك بعض التأثير عليه! بينما ازداد سيغموند فرويد حكمة بعد قراءة دوستويفسكي، فأنشأ علم النفس التحليلي. وازداد العشاق عشقا بعد قراءتهم «آلام فارتر» لشاعر ألمانيا الأكبر غوته، ولكن الذين انتحروا بعد قراءة الكتاب كثيرون أيضا!

وتأتي خطورة مثل هذه الكتب من درجة صدقها القاسي في كشفها العالم عاريا أمام أنفسنا، بكل قبحه ونفاقه، وتعقيداته والتواءاته. والنتيجة تتوقف على مدى صلادتنا الداخلية وحساسيتنا: إما أن نزداد حكمة أو جنونا!

ولكن الكتب الرديئة كثيرة أيضا. كان شوبنهاور يقول: إنه بمجرد قراءة عشر صفحات من أي كتاب يستطيع أن يحكم عليه فيما إذا كان جيدا أم لا. ولكن ليس كل القراء مثل شوبنهاور. فقد يصرف المرء سنوات طويلة، خاصة في تكونه الأول، في قراءة كتب رديئة حتى يصل إلى تلك الكتب الكبيرة. وقليلون هم المحظوظون الذين وجدوا دليلا لهم في القراءة منذ البداية. من هنا تنبع أهمية كتب مثل كتاب جون كيري، الذي انسحب إلى بقعة هادئة في مدينة أكسفورد من أجل أن يقرأ أكثر، كما يقول في كتابه، وقبله المهووس بالقراءة، الكاتب الأرجنتيني ألبرتو مانغويل، صاحب «يوميات القراءة» و«تاريخ القراءة». فهذه الكتب تقدم حصاد عمر في القراءة الجادة موفرة سنوات طويلة من البحث والحيرة والضياع لجيل يعيش في زمن «أوسع الكتب انتشارا»، التي ينتمي معظمها لخانة «الكتب الرديئة».

وللأسف، تنعدم في العربية مثل هذه الكتب إذا استثنينا كتاب «غواية الشحرور الأبيض» للراحل محمد شكري، الذي سجل فيه رحلته الساحرة مع الكتب منذ أن استطاع أن يفك الحرف في العشرين من عمره.