حقائق مخيفة

فاضل السلطاني

TT

شكا وزير التعليم البريطاني قبل فترة من تدني نسبة القراءة عند الأطفال والشباب البريطانيين. والأسباب أصبحت معروفة: انصراف هؤلاء إلى عالم الإنترنت، ووسائل الاتصال الاجتماعي، وألعاب الفيديو، وأخيرا الأجهزة الذكية الساحرة، التي اختزلت العالم كله، وقلبته أيضا، في جهاز بحجم الكف، سرعان ما تحول إلى أداة هوس عند الكبار أيضا. وتبين إحصاءات حديثة أجريت في بريطانيا أن أكثر من 60 في المائة من الفئة العمرية بين 18 - 30، يفضلون مشاهدة التلفزيون أو «دي في دي» على قراءة الكتب.

هذه النسبة، الأقل في البلدان الأوروبية المصنعة، تشكل تهديدا كبيرا لسوق الكتب الضخمة في بريطانيا، والتي تقدر مداخيلها بثلاثة مليارات دولار، فبدأت تضغط على الحكومة البريطانية لفعل شيء ما، خاصة بعد القطع الكبير الذي اتخذته حكومة المحافظين في المبالغ المخصصة لمكتبات البلديات العامة، مما أدى إلى غلق أعداد كبيرة منها. وبالطبع لا خوف على الرأسمال، الذي ينقذ نفسه دائما، و«الشاطر» دائما في إيجاد منافذ إنقاذ. فبدأ أصحاب دور النشر الكبيرة، منذ الآن، يفكرون في تطبيق صناعة الموسيقى على صناعة الكتب، بمعنى أن يحولوا الكتّاب إلى ما يشبه نجوم الطرب، فينظمون لهم مناسبات أكثر، ويجعلونهم ينخرطون أكثر في وسائل الاتصال الاجتماعي ليتواصلوا مع المعجبين، بالإضافة للإعلانات، و«الكتب الإلكترونية».

لكن الخطر الأكبر بالطبع، الذي تحذر منه الشخصيات والمؤسسات والجمعيات الثقافية، هو أن تجتاح بلد شكسبير، في المستقبل القريب، الأمية الثقافية. فحسب إحصاء، أجري عام 2011، وأشارت إليه جريدة «فاينانشيال تايمز» بتاريخ 29 مارس (آذار) الماضي، فإن ثلث من شملهم الاستفتاء من الأطفال لا يملكون كتابا خاصا بهم، و19 في المائة من الشباب تحت مستوى القراءة.

قد تبدو هذه الأرقام ليست بذات أهمية بالنسبة لنا، وقد تكون حتى «إيجابية»، لكنها أرقام مخيفة بالنسبة لبلد متطور مثل بريطانيا، يعرف أن القراءة هي الطريقة الأفضل لتغذية العقل والخيال، وهي القاعدة التي لا بد منها لأي تطور اجتماعي واقتصادي. والأهم، ماذا سيفعل البلد إزاء هذه الحقيقة. من ميزة المجتمعات المتطورة، وهذا سبب رئيس وراء تطورها أيضا، أنها لا تتستر على نواقصها، بل تكشف أخطاءها بنفسها، وتعرضها للنقاش العلني لإيجاد حلول حقيقية، وليس ترقيعات سرعان ما تهترئ أمام الواقع الجارف. ومن هنا، يناقش البرلمان البريطاني الآن، عبر لجانه المتخصصة، الإجراءات التي يجب اتخاذها لتلافي ذلك، حسب قاعدة «علموهم القراءة صغارا»، لأنك إذا «أردت قارئا طوال الحياة، فعليك أن تعلمه الانخراط في القراءة قبل أن يكبر». والأهم من ذلك، لم تنتظر جمعيات ثقافية أهلية عديدة ما ستفعله البيروقراطية، بل أطلقت مبادرات سريعة لتشجيع القراءة وخاصة في الأحياء الفقيرة والمهمشة في العاصمة البريطانية، موزعة كتبا ونصوصا ذات مستويات متنوعة مع تنظيم حلقات قراءة للصغار والكبار.

السؤال الآن: لماذا لا تخيفنا أرقام أكثر رعبا آلاف المرات في بلداننا؟ أرقام تتكرر كل سنة، فلا تستنفر وزارات التعليم فتعيد النظر بمناهجها، ولا وزارات الثقافة لتخرج من المكاتب الفارهة إلى الشارع، ولا الحكومات لتعلن حالة الطوارئ، ولا المؤسسات الرسمية وغير الرسمية لترفع شارة الخطر الوشيك، أو لتدارك شيء منه، فقد وقع الضرر للأسف منذ وقت طويل. إنها أرقام لا يملك المرء سوى أن يرتجف أمام هولها غير مصدق، على الرغم من أنها معروفة، وتكرر في كل تقارير التنمية الثقافية، العربية وتلك التابعة للأمم المتحدة.. ولكن لا بأس من التذكير بها لمن ينسى بسرعة: العربي لا يقرأ سوى ست دقائق سنويا! مَن منا لا يرتجف أمام هذه الحقيقة المخيفة؟! والأهم، مَن سيفعل شيئا؟