محمود صبري.. عندما يضل الفكر طريقه

مجلد ضخم عن أعماله وسيرة حياته

محمود صبري
TT

كثيرا ما يودي الفكر الحر والفكر العلمي بأصحابه فيضلون طريقهم. وأحيانا أودى هذا الضياع إلى كوارث مريرة. فالنازيون في ألمانيا مثلا تصوروا أنهم يطبقون نظرية التطور لداروين في تحسين الأنواع وهلاك الأنواع المتخلفة. وقام الشيوعيون السوفيات بشتى الخروقات باسم الطبقة العاملة واعتقادا منهم بأنهم يطبقون الفلسفة الماركسية. وفشل الاشتراكيون في كثير من الجبهات نتيجة التطبيق الساذج للاقتصاد الماركسي.

وعلى النطاق الفردي، كثيرا ما أوقع كبار المفكرين والفنانين أنفسهم في متاهات نتيجة تشبثهم بفلسفات أو نظريات معينة. كان الفنان العراقي محمود صبري واحدا من هؤلاء. تولى الدكتور حمدي التكمجي أخيرا إصدار مجلد ضخم عن أعماله وسيرة حياته وما قاله المفكرون العراقيون عنه. وكان عملا مشكورا حقا ضم مجموعة كبيرة من أعماله.

محمود صبري من الشخصيات البارزة في خمسينات العراق. توجه لفن الرسم وأنتج أعمالا رائعة في إطار الواقعية تميزت بمنحاها الثوري والاشتراكي. اشتهر منها بصورة خاصة لوحته الشهيرة والكبيرة عن الثورة الجزائرية. وتضم مجموعة التكمجي رسومات بارعة تصور حياة المحرومين من الشعب العراقي. بيد أن التطورات السياسية السلبية التي اجتاحت بلده جرته إلى المنفى وانضم للكثير من اليساريين العراقيين في الانتقال إلى براغ في تشيكوسلوفاكيا، معقل الفكر الماركسي عندئذ. ويظهر أنه أساء فهم هذه الفلسفة فعمد إلى تطوير قواعد تمكن أي إنسان أن ينتج أعمالا فنية بارعة تعتمد على الألوان والأشكال الهندسية في إطار ما سماه واقعية الكم، على اعتبارها أنها ستكون فن المستقبل. جره ذلك في الواقع إلى إنتاج لوحات تجريدية فاشلة تناقض كل ما آمن به الفنانون والنقاد اليساريون.

لم تلق أعماله الجديدة هذه أي استحسان أو تشجيع من العراقيين أو الأوروبيين، ولا اعتمد أي منهم ما توصل إليه من نظريات كان يتصور أنها صيغة علمية تجعل الفن في تناول الطبقة الكادحة. وأخذ نجمه بالأفول. وراح يشعر بالضياع والخيبة حتى توفاه الله قبل أوانه في الغربة.