حروبنا الكثيرة.. من هم شعراؤها؟

فاضل السلطاني

TT

في كتابه «شعر الحرب العالمية الأولى: أنطولوجيا»، الصادر عن مطبعة جامعة أكسفورد، ويغطي مسافة زمنية تمتد من سبتمبر (أيلول) 1914 إلى 1966، أدخل محرر الكتاب تيم كندال شعراء كثيرين اعتبرهم «شعراء حرب». ولكن كيف يمكن تعريف هذه التسمية؟ هل تشمل كل من كتب قصيدة عن الحرب وهو في بيته، أم أولئك الذين قاتلوا فعلا، وكتبوا من داخل الميادين ذاتها، وقسم كبير مات في المعارك، أو ظلوا، بعدما صمتت البنادق، يسترجعون ذكرياتها الرهيبة، وأهوالها، والرفاق الذين فقدوهم، وكان يمكن أن يكونوا معهم في القبور الضائعة في مختلف أنحاء الأرض؟

يلتزم كندال التعريف الأول، بل يتوسع فيه كثيرا فيدخل شعراء لا يمكن اعتبارهم بأية حال من الأحوال «شعراء حرب» مثل دبليو. بي. ييتس، وتوماس هاردي، اللذين كتبا قصائد قليلة عن الحرب، أية حرب، باعتبارها كارثة إنسانية، مهما كانت الأسباب التي تقود إليها، كما في قصيدة هاردي الشهيرة «الرجل الذي قتله». وموضوعها الرئيس، أن القاتل والمقتول كان يمكن أن يصبحا صديقين لو أنهما التقيا في حانة مثلا، وليس في ساحة حرب. وبهذا المعنى أيضا، كتب ييتس قصيدته «رجل يتوقع موته». وهذه القصيدة ليست فقط عن «الغموض الأخلاقي» الذي يتعلق بالحرب، بل أيضا عن «الزمن المضطرب» الذي قاد إليها. فبطل القصيدة يرى أن انسياقه للحرب لم يكن بدافع كرهه للعدو، أو حبه لشعبه. وكان كل ما يتمناه أن ينسحب من ميدان المعركة إلى وحدته، حتى لو كانت تكمن في قلب الموت.

وفي قصيدة أخرى، وهي «العودة الثانية»، وهي من أشهر قصائده، عبر ييتس عن «قوة اضطراب جديدة» تجتاح العالم «فتتداعى الأشياء» - وهو التعبير الذي اتخذه الروائي النيجيري تشينو أتشيبي عنوانا لروايته الشهيرة، التي تدور عن حرب الإنجليز على بلاده واحتلالها نهاية القرن التاسع عشر - وتسود العالم الفوضى، ويرتفع إلى السماء «مد مغموس بالدم»، راسما بذلك أجواء جهنمية لما يمكن أن تكون عليه أية حرب.

ولكن في رأينا لا ييتس ولا هاردي من شعراء الحرب. فليس كل من يكتب عن الحرب يمكن أن تنطبق عليه هذه الصفة، كما في أية تجربة إنسانية أخرى. من هو شاعر الحرب إذن؟ فيما يخص بريطانيا، تجمع مختلف المختارات البريطانية، ربما ما عدا كندال، على أن من نطلق عليهم شعراء حرب، والأمر يتعلق بالحرب العالمية الأولى، هم الشعراء الذين اشتركوا فعليا في هذه الحرب. وهم 17 شاعرا، قسم منهم قتل وأشهرهم ويلفرد أوين، الذي أصبح شاعرا أثناء الحرب وقتل فيها، وإدوارد توماس، الذي بدأ كتابة الشعر وهو في الميدان أيضا، وقتل محاربا، وروبرت بروك، الذي تطوع للقتال، ومات في السنة الأولى منها نتيجة لسعة بعوض، وإسحاق روزنبرغ، الذي قتل 1918، والحرب توشك على نهايتها. ومنهم من خرج معطوبا، نفسيا أو جسديا، وأشهرهم، وسيغفريد ساسون، الذي عاش طويلا، شبه معتزل ومهجور، ليكتشف أن «الآخر» ليس عدوه، بل المجتمع البريطاني، الذي فقد طريقه فخاض حربا لا معنى لها، وأن تلك الحرب، التي سميت «عظمى»، هي ليست كذلك، بل إنها مجرد عملية ذبح هائلة. ومن الذين أعطبوا جسديا فسرح من الحرب، روبرت غريفز، الذي مزق لاحقا كل قصائده عن هذه الحرب، متفرغا لكتابة قصائد الحب، حتى بات يعرف بشاعر حب، وليس بشاعر حرب.

بهذا المعنى، تتناول الأكاديمية البريطانية كيت ماكلوغلين في كتابها المهم «كتابة الحرب.. التمثيل الأدبي للحرب منذ الإلياذة حتى العراق» شعراء الحرب. إنها تعتبرهم مثل المراسلين الحربيين، الذين ينقلون لنا وقائع الحرب وأهوالها، ولكن شعرا، ينطلق من الميدان، من الجسد المهدد كل لحظة بالموت أو العطب، ثم يغوص عميقا في الروح المعذبة، لينقل لنا الشقاء الإنساني في أقصى لحظات تجسده: لحظات الحرب، التي قد يكون الجسد الميت، كما تقول الكاتبة، أفضل تعبير عن بشاعتها.

هل نملك شعراء حرب بهذا المعنى؟ في رأينا، إن كثيرا من شعراء العصر الجاهلي هم شعراء حرب، فقد كانت الحروب شبه طقس يومي. ولكن هل خلقت حروبنا المعاصرة، وما أكثرها، شعراء حرب؟