شواخص العراق الفنية والتاريخية.. من المنصور إلى أبي تمام

أول من يدفع فاتورة اي تغيير في النظام السياسي

تمثال أبي تمام في الموصل قبل هدمه (يمين) و تمثال أبي جعفر المنصور في بغداد
TT

ربما الشيء الوحيد الذي يتفق عليه الظلاميون سواء كانوا دواعش أم ميليشيات هو تمسكهم بأكثر زوايا التاريخ قتامة ورفضهم لمعاني الجمال فيه التي تعبر عنها التماثيل والنصب بأشكالها الفنية المختلفة، والتي تولى إبداعها كبار الفنانين والنحاتين العراقيين خلال العقود الستة الأخيرة من الزمن. وبذلك فإنه ليس العراقيون الأحياء وحدهم من يدفعون ثمن الحروب والأزمات التي تمر بها بلادهم منذ أكثر من عقدين من الزمن. بل التماثيل والنصب والأضرحة والمراقد والكنائس باتت هدفا «مقدسا» للمسلحين بصرف النظر عن الجهة التي ينتمون إليها.

معاول الهدم التي يحسن استخدامها الظلاميون تنظر للتمثال بوصفه خصما تاريخيا حان وقت تصفية الحساب معه مهما طال الزمن، مثل الخليفة العباسي أبي جعفر المنصور مؤسس مدينة بغداد، الذي جرى تحطيم تمثاله بعد عام 2003 عند احتلال العراق من قبل الولايات المتحدة الأميركية، أو بوصفه خصما عقائديا بوصفه «شكلا من أشكال الشرك والعبودية» مثلما يحصل الآن في الموصل على يد «داعش» التي هدمت تمثال الشاعر العباسي الشهير أبي تمام والموسيقي أبي عثمان الموصلي، وتمثال «فتاة الربيع»، ونبشت قبر المؤرخ ابن الأثير، صاحب كتاب «الكامل». مسلسل هدم الرموز والشواخص التاريخية والفنية وإزالتها بات يتكرر مع تغير الأنظمة السياسية في العراق. بعد سقوط النظام الملكي في 14 يوليو (تموز) 1958 هجمت الجماهير الغاضبة على تماثيل الحكم الملكي وعلاماته في الأماكن العامة، لتضع مكانها نصبا للزعيم عبد الكريم قاسم وثورته. ومع أن الأمر بقي عند حدود المتغيرات السياسية ولم يتعدَّها إلى البعدين التاريخي والعقائدي، لكنه يبقى في كل الأحوال يمثل مفارقة لافتة للنظر في بيئة اجتماعية قابلة لكل التحولات. لكن ما حصل بعد تهديم شواخص الملكية لم يصمد هو الآخر طويلا. فقد أزيلت تلك الشواخص والرموز على يد الأنظمة التي تعاقبت على حكم البلاد، وكان آخرها ما حصل بعد عام 2003؛ إذ جرت محاولات كثيرة لأجل إزالة كل ما له علاقة بتلك الحقبة الزمنية من حياة العراقيين، رغم اعتراضات النخب المثقفة باعتبارها تشكل تاريخا يجب الحفاظ عليه وكونها تمثل جزءا من ذاكرة الوطن. ولم يزل الجدل قائما بين من يجد تبريرا لإزالة كل ما له علاقة بالماضي باعتباره نصرا وفتحا يضاف إلى احتلاله الأرض وفرض الهيمنة وإزالة الوجود السياسي، وبين من يجده انتهاكا ونسفا لذاكرة مدن كاملة، وحملة مسعورة لإزالة معالم الجمال والتأريخ في البلاد.

في هذا السياق، يقول الفنان التشكيلي والنحات خالد المبارك: «لعل أهم ما تتميز به بغداد هو ساحاتها وميادينها ونصبها التي تحكي تاريخا وحقبا مهمة عاشها العراقيون، ولا بد من المحافظة عليها باعتبارها شاهدا مهمًّا على أحداث المكان وذاكرته، وموروث البلد وأهم الأحداث السياسية فيه، وعلاقتها بالأشخاص وحكاياتهم وقصصهم». ويدعو المبارك الجهات ذات العلاقة إلى «فهم مغزى الاحتفاظ بالنصب والتماثيل ورعايتها وتقديمها للأجيال مثلما تحفظ لهم كتب التاريخ الورقية». بدوره يرى المهندس المعماري بلال عصام أن إزالة بعض النصب التذكارية والتعرض لها بالتخريب لم يكونا منهجا حكوميا دائما، فقد وقع الاعتداء من قبل بعض الجهات المجهولة على عدد من النصب والتماثيل الفنية، التي لا تشير إلى البعث وثقافته بشيء. فقد سرق تمثال عبد المحسن السعدون (رئيس وزراء عراقي في الحكم الملكي) من منصته الخاصة في وسط الشارع الذي يحمل اسمه ببغداد (شارع السعدون). ولم تجرِ إعادته أبدا، الأمر الذي دعا أحد الفنانين إلى إنجاز نسخة بديلة لهذا التمثال.

ويخشى العراقيون أن تطال يد التخريب نصبا فنية رائعة ومهمة تشكل رموزا فنية ووطنية وتاريخية، مثل نصب الحرية للنحات جواد سليم الذي يعد علامة فارقة لبغداد، وهو يقوم وسط ساحة التحرير في قلب العاصمة العراقية، ونصب «الشهيد» للنحات إسماعيل فتاح الترك الذي فاز بجوائز عالمية، ونصب «الجندي المجهول» للنحات خالد الرحال.

أما التدريسي ساجت فاضل (مدرس تاريخ معاصر)، فيقول: «النصب والتماثيل التي تمثل جزءا من تاريخ العراق يجب الإبقاء عليها من أجل تذكير الأجيال القادمة ببعض ملامح الأنظمة السابقة لأنها جزء من الذاكرة العراقية الحية»، مضيفا: «في فرنسا مثلا هناك قوس النصر الذي أقيم منذ عهد نابليون بونابرت وما يزال شاخصا إلى الآن، علما بأن نابليون قد ساق فرنسا إلى الهلاك، وفي ألمانيا فإن مطار برلين الدولي هو بالأصل المقر الرئاسي لهتلر الذي كان شديد التحصين في تلك الفترة وهو في الوقت نفسه كانت تقام فيه الاستعراضات العسكرية». وتتفق معه الفنانة التشكيلية العراقية ذكرى سرسم بقولها: «واقع البلاد اليوم صار يفتقر لأي وثائق تحكي ما حصل، لأن كل حقبة تحاول محو ما قبلها، وأصبح الشك يساورنا إزاء أحداثها، في حين أن كل دول العالم تحمي أعمالها الفنية ووثائقها وتحاول لأنها شاهد حي على الأحداث الماضية.. إن هويتنا تختفي تماما بسبب تلك الهجمة المتكررة على النصب والتماثيل».

ومن محافظة بابل، وصف الفنان فاخر محمد عملية هدم الرموز والنصب والتماثيل وإزالتها بالهجمة الظلامية والمتخلفة والمظلمة، وهي ظاهرة ليست بالجديدة، فأهم المعالم التراثية في حضارات بابل وآشور وسومر جرى الاعتداء عليها بالطريقة نفسها من قبل المعتدين. وأشار إلى «أن تلك الهجمات تأتي من تصورات عقلية متخلفة بأن تلك الرموز تمثل جزءا أساسيا من الوجود السياسي لعهد ما، وعملية إزالتها هي جزء من إزالة ذلك الوجود».

وتشير المصادر الصحافية إلى أن مرحلة ما بعد صدام شهدت هي الأخرى حملة حكومية لإزالة نصب بارزة في العراق مثل نصب «بلاط الشهداء» و«الأسير العراقي» في ساحة المستنصرية، ونصب «المقاتل العراقي» في ساحة باب المعظم، ونصب «المسيرة» في ساحة المتحف، وجدارية التأميم عند مدخل وزارة التجارة، ونصب «اللقاء في وسط العاصمة»، إضافة إلى تسريبات من احتمالية إزالة التمثال الكبير الذي يتحدث عن الحرب العراقية الإيرانية، في ساحة الاحتفالات (مقر للقيادات الحاكمة في البلاد اليوم) وسط العاصمة بغداد، الذي يتكون من سيفين ضخمين يرسمان في الفضاء قوسا شاسعا تمسكهما قبضتان، وتحت السيفين خمسة آلاف خوذة لجنود إيرانيين، وهي خوذات حقيقية جمعت من ساحات المعارك التي دارت بين الطرفين، وكان صدام قد اشترط في وقتها على جامعيها أن تكون تلك الخوذات قد ثقبها رصاص الحرب وخلفت قتلى. وكانت الساحة الواسعة تحت السيفين قد سميت «ساحة الاحتفالات».

مختصون في وزارة السياحة والآثار العراقية عبروا عن مخاوفهم من هجمة تخريب الآثار الأخيرة في المحافظات التي تشهد نزاعات مسلحة وطلبت من المنظمات الدولية الراعية للآثار التدخل الفوري واتخاذ كل ما يلزم من أجل توفير الحماية الكافية ومراقبة المواقع الأثرية، مشيرة إلى أن «نحو خمسة آلاف موقع أثري تتوزع في محافظات الموصل وديالى وكركوك والأنبار وصلاح الدين تتعرض لعمليات التخريب والسرقة والتهريب المنظم من قبل عصابات الآثار الدولية والإقليمية وحتى المحلية، بالإضافة إلى الأضرار الناجمة جرّاء العمليات العسكرية».