«الخضوع».. عندما يفوز الإخوان المسلمون بالسلطة في فرنسا

نشرت الرواية في يوم مذبحة «شارلي إيبدو»

ميشال ويليبك
TT

على امتداد ما يزيد على العقد، برز الروائي ميشال ويلبيك في دور «الحصان الأسود» للنخب السياسية الفرنسية. ويتسم ويلبيك بميله الغريزي نحو الاستفزاز، مما جعله يثير غضب الجميع تقريبا من اليسار إلى اليمين.

لذا، ليس من المثير للدهشة أن نجد روايته الأخيرة «الخضوع» (سوميزيون) يناير الحالي تثير عاصفة من الاعتراضات داخل باريس.

نشرت الرواية في يوم حادث «شارلي إيبدو»، وتعكس الوباء الذي أصاب قطاعا من النخبة المثقفة الفرنسية طوال عقد من الزمن، وشجع بدوره آخرين، بينهم المتشددون، ممن يصرون على أن الديمقراطية الغربية محكوم عليها بالفشل.

وقد وصفت المراجعات الأولى للرواية، التي غالبا ما صدرت عن أفراد لم يقرأوا الرواية فعلا أو تصفحوها سريعا على أفضل تقدير: «الخضوع» بأنها قطعة أخرى من الكتابات «المعادية للإسلام».

في الواقع، الرواية أبعد ما يكون عن كونها «معادية للإسلام»، يمكن قراءة الرواية باعتبارها دفاعا عن إسلام تحول إلى آيديولوجية سياسية تمثل بديلا للتنوير، ربما تنقذ أوروبا من انحدارها التاريخي و«انتحارها الحضاري» نهاية الأمر.

تتمثل الشخصية المحورية في الرواية في بروفسور للأدب بجامعة السوربون لم يتم تحديد اسمه متخصص في كتابات جيه كيه أوسمون، وهو روائي عاش خلال الفترة التي أطلق عليها «الحقبة الجميلة» عندما كانت فرنسا في أوج قوتها وازدهارها، وهي فترة انتهت باندلاع الحرب العالمية الأولى وحصول أسوأ مذابح عرفها التاريخ الأوروبي.

كان أوسمون شخصا واقعيا متشائما في عصر سادت خلاله المثالية المتفائلة. وكان لديه شعور بأن «تايتانيك» ستصطدم بجبل الجليد، لكنه كان عاجزا عن تحديد ما ينبغي فعله حيال ذلك. كل ما تمكن من فعله كان التعبير عن حبه وإعجابه بكل جزء في «تايتانيك الأوروبية»، بما في ذلك ملاهي بروكسل المتلألئة. ولم يكن لدى أوسمون أدنى استعداد للتنازل عن أي جزء، مهما كان يسيرا، من حضارة أثمرت أول مساحة على الإطلاق يتمكن الإنسان خلالها من العيش في حرية وأمن نسبيين. واعتقد أوسمون أن جميع البدائل المطروحة للتنوير ستكون أسوأ حتما.

ورغم أنه يحاكي تشاؤم أوسمون، فإن «بطل» رواية «الخضوع» لا يشارك الروائي المنتمي للقرن الـ19 عشقه لأوروبا غير الكاملة والتي، رغم نقائصها، تبقى الخيار الأفضل لجميع أنصار الحرية الإنسانية.

بطل ويلبيك لا يعتبر موت الحضارة الأوروبية مأساة. في الواقع، إنه يصر على أن أوروبا أقدمت على الانتحار بالفعل، مشيرا إلى أن الفرنسيين، والأوروبيين بصورة عامة، تخلوا عن تراثهم المسيحي، ودمروا الأسرة عبر تقنين الإجهاض وزواج المثليين والسماح للنساء بقدر مفرط من «الوقاحة» باسم النضال ضد الأبوية، وتحويل أنفسهم لمستهلكين آليين. ويرى البروفسور أن المشاعر الوطنية تلاشت لأن النخبة حولت فرنسا لكتلة أوروبية بلا ملامح، بل ويرى أن الديمقراطية ذاتها ليست سوى وهم، مجرد نظام يسمح لمعسكرين متعطشين للسلطة هما اليمين واليسار بالتشارك في السلطة بالتناوب. وأحيانا، يجري استغلال الديمقراطية كذريعة لغزو البلدان الأخرى.

إذن، ما الذي ينبغي عمله؟ هنا يطرح ويلبيك الإسلام كبديل منطقي، إن لم يكن مثاليا بالضرورة. على أي حال، فإن القليل المتبقي من التقاليد الأوروبية تجاه احترام المقدس أصبح محجوزا الآن للإسلام الذي يجب إعفاؤه من التفحص الناقد باسم «التسامح» و«الاحترام». وحتى عندما يرتكب المسلون أفعالا يتعذر التسامح حيالها، يبقى لزاما على الأوروبيين التسامح معها تكفيرا عن الخطايا الاستعمارية والإمبريالية السابقة. إن تقمص دور الضحية يشكل أصلا لا ينفد يمكن لمسلمي أوروبا الاعتماد عليه لأجيال قادمة. الملاحظ حقيقة أن قتلة ضحايا «شارلي إيبدو» لم يزرا وطنهما الأصلي الجزائر قط، لم تحرمهما من ميراثهما من الشعور بأنهما ضحايا للوجود الاستعماري الفرنسي الذي كان قائما قبل مولد القاتلين في باريس بعقود.

وحتى الأفعال التي لا تستحق أدنى احترام، مثل ختان الإناث، يبقى لزاما على الأوروبيين احترامها باسم «الغيرية الثقافية».

عبر الرواية، يقول الراوي: «يمتاز الإسلام بكونه ديانة متفائلة سعيدة بالعالم بالصورة التي خلقها الله عليها». ويقف هذا على النقيض من الأديان الأخرى، مثل البوذية التي ترى العالم «غير مناسب» والحياة ملحمة من الأحزان. أما المسيحية، فترى العالم كواد من الدموع، على الأقل حتى «المجيء الثاني» للمسيح. وأورد الراوي تصريحا لطارق رمضان، مستشار الكثير من الحكومات الأوروبية فيما يخص الإسلام، قال خلاله إن الشريعة الإسلامية تطرح «خيارا مبتكرا وثوريا أمام أوروبا».

وبعيدا عن تصوير سيطرة الإخوان المسلمين الفرنسيين على السلطة ككارثة، مثلما رأى كثير من المصريين في بلادهم العام الماضي، يرى الراوي في «الخضوع» هذا السيناريو كفرصة للشروع في بداية جديدة لأوروبا. يدعى الرئيس الفرنسي الجديد محمد بن عباس، وهو سياسي مسلم على غرار أوباما متخرج في «بوليتكنيك»، وهي واحدة من أعرق مدارس فرنسا، وشخص معتدل يحمل رؤية لإحياء الإمبراطورية الرومانية تحت لواء الإسلام. ويحصل الجميع، بما في ذلك أساتذة الجامعات الذين اعتنقوا الإسلام، فرصة للترقي، علاوة على رواتب مجزية. وتجري معاونة الأساتذة الذكور على اتخاذ ما يصل لـ4 زوجات، الكثيرات منهن من صفوف الطالبات.

ويشير الراوي إلى أن شخصيات فرنسية شهيرة، منها الشاعر آرثر رامبو، والفيلسوف رينيه غينو، والكاتب ميشال شودكيفيكس، ومصمم الرقصات موريس بيجار، اعتنقت الإسلام لأن التنوير الأوروبي لم يعد يرضيها.

في الواقع، يعد بطل ويلبيك إلى حد كبير صورة كاريكاتيرية من أوسمون.

وبالطبع، يمكن قراءة «الخضوع» باعتبارها عملا تهكميا. إلا أن المشكلة تكمن في أن عدم الرضا حيال الذات التي تحملها واقعية للغاية، حيث ينظر الكثير من الفرنسيين بالفعل لمجتمعهم باعتباره قد انحرف به التيار في اتجاه مجهول، ويساورهم القلق حيال حكوماتهم المنتخبة العاجزة بصورة متزايدة، والمسؤولين البيروقراطيين الذين يتدخلون في جميع جوانب حياة الناس، والنظام الاقتصادي الذي يعد بالكثير ولا يقدم في النهاية سوى القليل. ويدعي أنصار فكرة تراجع الغرب أن الأوروبيين لم يعودوا يؤمنون بأي شيء، وبالتالي محكوم عليهم بخسارة النضال في مواجهة المتشددين الموجودين في أوروبا الذين يؤمنون بحماس بالقليل الذي يعرفونه من الإسلام.

ويبقى التساؤل: ما الذي يريده المتشددون؟

الإجابة هي أنهم لا يريدون أي شيء على وجه التحديد لأنهم يريدون كل شيء، فهم يريدون السيطرة على حياتك وإملاء كل جانب من جوانبها حتى أدق تفاصيلها. وفي المقابل، يعرضون عليك الأمان ونصيبا من أي كعكة قد تبقى بأيديهم. وتنتهي رواية ويلبيك من دون أن يبدي البطل موافقته الواضحة على هذه الصفقة، ما يعني أن الفرنسيين، حتى بعد 7 سنوات من الآن، سيبقى أمامهم خيار.