شارع الكتب في الإسكندرية صار مكانا للخردة.. والكتب المزورة

ذاع صيته منذ القرن الـ19 وكان من رواده نجيب محفوظ وتوفيق الحكيم

شارع النبي دانيال الآن
TT

شارع الكتب.. هو الاسم الذي اشتهر به شارع النبي دانيال بالإسكندرية بين عشاق اقتناء الكتب النادرة والتراثية حول العالم، فقد ذاع صيته عالميا منذ نهايات القرن الـ19 وطوال القرن الـ20 باعتباره قبلة المثقفين والعلماء والباحثين، ونهل من كنوزه كبار المبدعين في مصر والعالم العربي، وكان التجول بين عناوين الكتب المطروحة أرضا أو بين أرفف خشبية بالية يأخذ الألباب ما بين عناوين عربية وإنجليزية وفرنسية، لكنه لم يعد كذلك.

أصبح الشارع الذي كان يمثل جزءا هاما من السياحة الثقافية بالمدينة إلى شارع للخردة والملابس القديمة والأجهزة الكهربائية والمصنوعات الجلدية، وتقلص عدد باعة الكتب حتى أصبح يمكن عدهم على أصابع اليدين، وفي أعقاب ثورة 25 يناير (كانون الثاني) فقد شارع الكتب رونقه بعشرات الكتب والروايات المزورة التي أصبحت تطل بوجوهها على جانبيه، وتعلوها لافتات صغيرة بـ10 جنيهات، و20 جنيها ويصنفها الباعة حسب شعبية الكاتب أو شهرة الرواية ورواجها في أوساط الشباب.

«ذائقة القارئ تغيرت»، هكذا تفوه بكل امتعاض الحاج أحمد عواد، أقدم باعة الكتب بشارع النبي دانيال، قائلا لـ«الشرق الأوسط»: «لم يعد الحال كما مضى، أعمل هنا منذ أكثر من 40 عاما، فقد ورثت المهنة عن والدي وجدي، لكني لم أعهد مثل هذا الركود وتلك الذائقة الغريبة لدى الزبائن والقراء، أصبح رواد الشارع الأساسيون هم أولياء أمور الطلاب في المراحل الدراسية المختلفة يبحثون عن كتب دراسية قديمة بأسعار زهيدة، وطلاب الجامعة كذلك، حتى المراجع لم تعد تجد من يقتنيها، فالطلاب يقومون بأبحاثهم عن طريق الإنترنت ولم يعد في مقدرة أهلهم تساعد على اقتناء الكتب، أما الزبائن الأكثر وجودا في الشارع اليوم فهم الشباب زبائن الكتب والروايات المزورة (المقلدة) ولا أخفي سرا هي التي تسبب حركة رواج في شارع النبي دانيال».

وبكل أسى يترحم عم عواد على أمجاد الشارع العتيق: «كان نجيب محفوظ من زبائني ومن قبله توفيق الحكيم، ويوسف إدريس، وأنيس منصور، ويوسف القعيد، وكبار الكتاب لن أتذكرهم كلهم بالطبع، كان الشارع يمثل قيمة كبرى بما يحتويه من كتب قيمة، لم تكن الكتب التي أضعها أمامي تمكث 4 أيام، كان عشاق الكتب النادرة يتخاطفونها، اليوم من الممكن أن تظل الكتب عندي سنوات طويلة ولا يأتي أحد لشرائها».

وأمام كومة من الكتب المهلهلة، قال لي علي السيد (60 سنة)، أحد رواد شارع النبي دانيال: «للأسف كل المعروض من الكتب أصبح من دون قيمة، اعتدت منذ سنوات دراستي في كلية الآداب بقسم التاريخ أن أبحث عن المراجع القيمة والكتب النادرة هنا، وكنت أعثر على كنوز لا تقدر بثمن، تزخر بها مكتبتي حتى الآن. هنا وجدت كتب موقّعة من عميد الأدب العربي طه حسين، ووجدت كتابا بتوقيع الرئيس أنور السادات، وعثرت على خرائط نادرة وخطابات بين كبار الشخصيات السياسية، وصور لأشهر نجوم مصرفي الأدب والفن، وكنت أيضا أقتني العملات والطوابع، من بعض الباعة هنا، الآن لن تجدي سوى كتب دراسية وكتب جامعية، أو روايات ذات طباعة رديئة ترضي شغف الشباب».

يضيف: «تبدل حال الشارع منذ تعرض لتدمير أكشاكه في عام 2012. بسبب حملة للبلدية. صحيح أن أهل إسكندرية انتفضوا للحيلولة دون تدمير جزء هام من قلب الإسكندرية والحفاظ على تاريخ الشارع، إلا أن أحوال الباعة ساءت بعد أن فقدوا أعدادا كبيرة من الكتب، ومنهم من ترك بيع الكتب وتحول لتاجر ملابس، ومنهم من أصبح يعمل لصالح زبائن معينين من الطبقة العليا ومن أثرياء الدول العربية».

أما عم سيد عبده، أحد باعة الجرائد والمجلات القديمة بالشارع، فيقول: «أعمل هنا منذ نحو نصف قرن أبا عن جد، كان الشارع فعلا يعج بالكتب القيمة، لكن تلك الكتب كانت تأتي إلينا من مكتبات ضخمة كانت تقتنيها السر الأرستقراطية الكبيرة في الإسكندرية، والذين هاجر معظمهم، كانت المكتبات التي تعرض في مزادات تضم كتبا أجنبية وعربية وموسوعات ضخمة لا مثيل لها، وكان أي شخص يرغب في كتاب نفدت طبعاته أو عدد نادر من مجلة ما، كان فورا يتوجه إلينا أولا ثم يذهب لسور الأزبكية بالقاهرة، وكان زواري من كل أنحاء العالم، وأغلبهم أصدقاء أوروبيون للعائلات التي كانت تقيم هنا في هذا الشارع».

ويستطرد: «هذا الشارع كان حالة فريدة من نوعها. كان زبائني يهودا وأرمن وجريك وإيطاليين وفرنسيين، ولم يخب ظنهم يوما، كانوا يجدون دوما ما يبحثون عنه بكل اللغات، حتى إن البرنس حسين حفيد الأمير عمر طوسون حفيد محمد علي باشا جاء إلى ذات يوم يبحث عن خريطة نادرة للإسكندرية ليثبت بها ملكية والده لعدد من الأراضي في ضواحي الإسكندرية، لكن اليوم لم يعد الإقبال على الشارع كما كان بسبب الكتب المزورة، وخاصة الروايات».

ويرفض عم عبده تماما بيع تلك الروايات قائلا: «لأنها أموال حرام، إنها تضر صناعة النشر ضررا كبيرا، وأنا أعلم جيدا من بعض أصحاب المطابع أن الكتاب الشباب الذين يكتبون من أجل الشهرة والأموال، يقومون بطباعة أعمالهم لدى أي مطبعة ويقومون بتوزيعها في مقابل المكسب السريع والشهرة، وهي ظاهرة لم نرها من قبل، وعلى الدولة أن تتدخل لمنع تلك المهزلة».

تبدلت أحوال الشارع العتيق الذي يعد أحد أقدم شارعين في إسكندرية الإسكندر المقدوني، حيث أنشئ حينما عهد الإسكندر الأكبر إلى مهندسه اليوناني «دينو قراطيس» بتخطيط هذه المدينة فوضع لها تخطيطا أشبه بقطعة الشطرنج، عبارة عن شارعين رئيسيين متقاطعين بزاوية قائمة تحيط بهما شوارع أخرى فرعية تتوازى مع كل من الشارعين.

ولا تقتصر شهرة الشارع فقط على أمهات الكتب التراثية، بل إنه لا يزال يلقى اهتمام كثير من السائحين من عشاق الإسكندرية، حيث يضم مسجد النبي دانيال، أحد المبشرين باليهودية، وضريحا يقال إنه له، إلا أن عددا من الأثريين يؤكدون أن الضريح الموجود بالمسجد على عمق نحو 5 أمتار هو للشيخ محمد دانيال الموصلي، وهو رجل صالح جاء إلى الإسكندرية في نهاية القرن الثامن الهجري وقام بتدريس أصول الدين وعلم الفرائض على النهج الشافعي، وظل بها حتى وفاته سنة 810 هـ، ودفن بالمسجد الذي يعود تاريخ بناؤه إلى القرن الـ12 الهجري. وكان الشارع منجما للآثار الرومانية التي عثر عليها تحت أرضه، وذاعت شهرته أيضا بسبب شائعة أن قبر الإسكندر الأكبر المفقود حتى الآن موجود به، وجذبت الشائعة عددا كبيرا من المنقبين عن الآثار للتنقيب والحفر في أعماقه، لكن تلك المحاولات التي تمت في القرن الـ20 لم تسفر عن شيء.

يزخر الشارع أيضا بعدد من الأبنية العريقة، من بينها مبنى جريدة «الأهرام» في الإسكندرية، والمعبد اليهودي الذي يتوسط الشارع والمركز الثقافي الفرنسي الذي أنشئ عام 1886. وظل الشارع على مدار القرن الـ20 قبلة المثقفين الأجانب والكتاب الفرنسيين والمصريين، ومن أشهرهم تيري فابر، صاحب دار نشر فابر الفرنسية العريقة، والكاتب ميشال تورنيه وبرنارد نويل وجمال الغيطاني ومحمد سلماوي وإدوارد الخراط وصنع الله إبراهيم وعلاء الأسواني.