مكة المكرمة: بيئة معمارية «مشوهة» ومخالفات في البناء تهدد بكارثة أمنية وبيئية

مركز فقيه للأبحاث: 10 توصيات لحل المشاكل والتشديد على المواصفات والضوابط

TT

مكة المكرمة ليست مدينة عادية.. إنها أم القرى، وهي مهوى أفئدة المسلمين في شتى بقاع الأرض، يتجهون إليها في صلاتهم، وتحن إليها قلوبهم، ويتطلعون لزيارتها ولو مرة واحدة في العمر. وتظل ذكراها وشتى معالمها حية في وجدان من تشرف بزيارتها، تستثير في نفسه أنبل المشاعر وأصفاها وأسماها، فهل البيئة العمرانية حول الحرم المكي الشريف شيء يغذي هذه الأحاسيس النبيلة في نفوس الزوار والمعتمرين؟

مركز فقيه للابحاث اجرى مسحا ميدانيا في المنطقة المركزية على 1317 مبنى ومجمعا سكنيا، هنا ملخصه:

عندما أمر خادم الحرمين الشريفين بتنفيذ أكبر مشروع عرفه التاريخ الإسلامي لتوسعة وعمارة الحرمين الشريفين، حرص على التوجيه بإعداد وتوفير أحدث ما توصلت إليه تقنيات العصر لهذين المشروعين العملاقين من معدات وآلات، واستعمال موارد لم يسبق استعمالها من قبل، حتى تبرز توسعة الحرمين الشريفين كتحفة معمارية إسلامية رائعة، وتكون صورة حية لتكنولوجيا المعمار الحديث، وتقاوم التغيرات الطبيعية من عوامل بيئية وفيضانات وزلازل.

وحدد مركز فقيه للأبحاث والتطوير لدراسته الميدانية عدة أهداف، وهي: حصر المباني السكنية الجديدة في المنطقة المركزية وتحديد مدى التزامها باشتراطات وأنظمة البناء، وحصر المناطق المتدهورة عمرانياً والمعزولة عن شبكة الطرق الرئيسية، وحصر المناطق غير المستغلة الاستغلال الأمثل، ووضع اقتراحات وتوصيات للارتقاء بالبيئة العمرانية في هذه المنطقة ومواجهة الزيادة المطردة في أعداد الحجاج والمعتمرين.

* الوضع الراهن

* كشفت الدراسة الميدانية عن الأوضاع الآتية:

أولا: أن النسيج العمراني للمنطقة منتظم على الشوارع الرئيسية فقط، أما في القطاعات الجبلية فيتم بعشوائية مع عدم التقيد بضوابط وقوانين التنظيم مما أدى إلى نشوء تجمعات سكنية معزولة عن شبكات الطرق الرئيسية وافتقارها بالتالي إلى الخدمات العامة الضرورية للسكان.

ثانيا: أن شبكة الطرق في القطاعات الجبلية تتم هي الأخرى بعشوائية، فهي لا تخضع لتخطيط أو تنظيم، وإنما تتجه في مسارات متعرجة حسب طبيعة الأرض وتزاحم المباني.

ثالثا: انتشار الممرات الضيقة التي يتراوح عرضها بين متر واحد ومترين في كثير من الأحيان.

رابعا: معظم الملكيات تتراوح مساحتها بين 20 ـ 100 متر مربع، وتمثل هذه الملكيات 72 في المائة من إجمالي عدد الملكيات بالمنطقة، ومثل هذه الملكيات حتى لو أعيد بناؤها على وضعها الحالي فإن نظم البلديات لا تسمح بأن يزيد الارتفاع على مرة ونصف مرة مثل عرض الشارع، أي دور أو دورين فقط، وبذلك فإنها لا تستغل الاستغلال الأمثل.

خامسا: معظم العقارات متجاورة تفصل بينها أزقة ضيقة، وتنص أنظمة البلديات على تراجع صاحب الملك لإفساح الطريق، وإذا تم ذلك لا يبقى لصاحب العقار إلا الجزء اليسير الذي لا يستطيع أن يعمره.

سادسا: البيوت الشعبية القديمة في المرتفعات الجبلية ملتصقة بعضها ببعض، ويتكدس بها السكان خاصة في المواسم من جميع الأجناس، وهي بذلك تعاني من عدة مشكلات منها كثرة حوادث الحريق والانهيارات وتعذر دخول سيارات ومعدات الدفاع المدني للإنقاذ.

* مشاكل المنطقة

* هذه الأوضاع المتردية التي كشفت عنها الدراسة الميدانية تترتب عليها مشاكل عديدة تنعكس تأثيراتها السلبية على جميع الأنشطة في مختلف جوانب الحياة اليومية بالمنطقة. فعلى الصعيد العمراني وجدت الدراسة أن المباني الجديدة في الشوارع الرئيسية يتراوح ارتفاعها بين 10 ـ 12 طابقاً، وتبدو شبه متلاصقة لانعدام الفراغات بينها مما يساهم في انعدام الخصوصية، كما أن بعض هذه المباني يطل على الشارع الرئيسي بواجهات ضيقة. وفي المقابل أيضا تحولت بعض الشوارع مثل (خالد بن الوليد) الذي تقوم على جوانبه كثير من العمارات والفنادق، إلى ما يشبه مراكز المدن في الدول الأوروبية.

ولاحظت الدراسة أن كثرة المنحدرات الشديدة والميول الصعبة نتيجة الطبيعة الطبوغرافية ترتب عليها انعزال كثير من المباني عن شبكة الطرق، وبالتالي لا يمكن الوصول إليها إلا عن طريق ممرات متعرجة أو مجموعات من السلالم المتهدمة في الغالب.

ووجدت الدراسة أن كثيرا من المباني في هذه القطاعات في حالة معمارية سيئة، حيث توجد بها مبان قديمة ومتهدمة أو مؤقتة. ويزيد من تدهورها انعدام أعمال الصيانة والترميم.

أما على الصعيد الامني، فقد وجدت الدراسة الكثير من الملاحظات، من بينها: أن الممرات الضيقة المتعرجة التي يتراوح عرضها بين 1 ـ 2.5 متر مربع تنشتر في التجمعات السكنية المعزولة عن شبكة الطرق. ولاحظت الدراسة الميدانية وجود ضعف في الكفاءة الفنية لشبكة الطرق الداخلية نظراً للطبيعة الجبلية للمنطقة التي تكثر بها الميول والمنحدرات الشديدة والتي تنشأ عنها تعرجات خطيرة، إضافة إلى انعدام وسائل الأمان في معظم الأحوال، إذ لا توجد حواجز على الجوانب، حيث أنها نفذت على أسس غير سليمة.

وكشفت الدراسة أن وجود تداخل الأزقة وضيقها، وتداخل المنازل في بعضها البعض يسبب مشكلة أمنية في حد ذاتها، بل إن هناك بعض المنازل مشتركة في حائط واحد، مما يسبب مشكلة لرجال الدفاع المدني عند قيامهم بمهمتهم الصعبة لدخول هذه المنازل. ولاحظت أيضا أن التداخل بين حركة المشاة وحركة السيارات نظراً لعدم توافر مواقف للسيارات في كثير من العمارات الجديدة حول الحرم. أما المساكن الشعبية القديمة في بعض الأحياء مثل حي المسيال (بشارع السقيفة)، فيتكدس بها السكان خاصة في المواسم من جميع الأجناس.

وتوصلت الدراسة الميدانية إلى أن المنطقة المركزية تعاني من كثرة الانهيارات والحرائق وصعوبة الإنقاذ بسبب تلاصقها مع بعضها البعض، إضافة إلى كثرة وجود الرواشين الخشبية بها، ووجود الصناديق الخشبية أعلى أسطح المنازل، وضيق الأزقة التي لا تتسع إلا لسيارة واحدة فقط.

وعلاوة على ذلك كله، توضح الدراسة أن المعالجة المعمارية الغريبة لواجهات المباني والبعيدة عن التراث المعماري المكي المتميز، تسبب نوعاً من التلوث البصري للمنطقة بسبب التباين الواضح في معالجة الواجهات، وإن كانت هناك بعض المحاولات لإظهار الطابع المعماري في بعض المباني الجديدة مثل مشروع مجمع شركة مكة للإنشاء والتعمير.

* مخالفات وتجاوزات

* توصلت الدراسة الميدانية إلى أن العديد من المشاريع والمباني تجاوزت وخالفت الانظمة من البناء ومواقف السيارات ومتطلبات السلامة، فعلى سبيل المثال تقضي الشروط بألا يتجاوز الارتفاع مرة ونصف مرة مثل عرض الشارع، وبحد أقصى عشرة أدوار، وبحيث لا يتجاور الارتفاع 27 متراً، فيما هناك مبان على الشوارع الرئيسية تجاوزت الارتفاع المسموح به نظاماً، حيث تراوحت الارتفاعات بين 10 ـ 12 طابقاً، بل تجاوزت ذلك بكثير في أماكن قريبة من الحرم، إضافة إلى وجود مبان شاهقة على شوارع وحارات ضيقة جداً.

أما بالنسبة لمواقف السيارات فإن الانظمة تلزم ملاك المباني الكبيرة على الشوارع الرئيسية، والتي يزيد ارتفاعها على ثلاثة أدوار وتبلغ مساحتها 400 متر مربع، بتخصيص الدور الأرضي أو جزء منه لا يقل عن 50 في المائة من مساحة الأرض ليكون موقفاً للسيارات، على أن تكون هذه المواقف مصممة بطريقة تسمح بتأمين دخول وخروج السيارات بسهولة ولا تعرقل حركة المرور، على ألا يقل عرض المدخل عن أربعة أمتار، ويجب اتخاذ جميع احتياطات الأمن والوقاية. وبينت الدراسة الميدانية أن المباني التي ليس بها مواقف سيارات تمثل 99.1 في المائة وأن 0.9 في المائة فقط لها مواقف سيارات.

وفي ما يخص بمتطلبات السلامة مثل سلالم الطوارئ فإن الأنظمة تؤكد إنه في حالة زيادة المبنى على أربعة أدوار، يجب تأمين سلم للطوارئ مطابق للاشتراطات الخاصة به حيث يكون متصلاً مباشرة بالدور الأرضي، ومن مواد غير قابلة للحريق، اما إذا كانت مساحة الأرض أقل من 400 متر مربع فيكتفى بالسلم الرئيسي على أن يراعى فيه تطبيق المواصفات الخاصة بسلم الطوارئ. وكشفت الدراسة التي أجريت على 1317 مبنى سكنياً في المنطقة المركزية، أن نسبة المباني التي بها سلالم للطوارئ لا تتعدى 2 في المائة مما يقلل من وسائل الأمان المفروض تحقيقها في هذه المنطقة التي تكتظ بأعداد هائلة من الحجاج والمعتمرين.

* نتائج وتوصيات

* من المسلم به أن العمائر والمجمعات السكنية والأبراج والدور على اختلاف أسمائها في المنطقة المحيطة بالحرم المكي الشريف يسكنها أساساً الحجاج و زوار البيت العتيق، مما يستلزم أن تكون لهذه المباني مواصفات خاصة، وأن تخضع للتنظيم والتخطيط العمراني السليم الذي تراعى فيه كل الجوانب البيئية والصحية والأمنية والجمالية.

وكشفت الدراسة الميدانية التي شملت جميع أجزاء هذه المنطقة المركزية، أنه لا يظهر من مبانيها في حالة مقبولة إلا الشريط الضيق من المباني المطلة على الشوارع الرئيسية، أما ما وراء هذا الشريط الضيق فشيء آخر.

ان التوسعات التي تم إنجازها حول الحرم والأنفاق وخاصة نفق (السوق الصغير)، تعتبر بكل المقاييس عملاً حضارياً هائلاً يمثل الصورة التي يجب أن تكون عليها المنطقة المركزية حول الحرم. ولقد جاء مشروع شركة مكة للإنشاء والتعمير الذي يعلو هذا النفق، رغم ما قد يؤخذ من مآخذ (وهو أمر طبيعي في أي مشروع رائد من هذا النوع) ليمثل محاولة رائدة وشجاعة لتطوير المنطقة والارتقاء بها إلى أعلى المستويات الحضارية التي تتناسب مع جلال المكان وقدسيته.

وتقول الدراسة في توصياتها ان هناك عددا كبيرا من المباني القديمة المتهالكة ليست لها أي قيمة معمارية أو تراثية، تحتل مسطحات صغيرة على بعد خطوات من الحرم المكي الشريف، يمكن تجميعها من مساحات ضخمة وتطويرها في مشروعات كبرى على غرار مشروع شركة مكة للإنشاء والتعمير. وقد أظهرت الدراسة الكثير من هذه الأبنية خاصة في حارة الباب، وشارع أجياد السد، وشارع جبل الكعبة، وشارع باب العمرة.

وترى الدراسة في توصياتها أنه توجد مساحات كبيرة من الأراضي عليها مبان متهدمة ولكنها ضعيفة الاتصال بالشوارع الرئيسية، وينبغي وضع تصور لتجميع هذه المساحات وتطويرها وربطها بالطرق الرئيسية واقامة مشاريع عليها مما يساهم في زيادة طاقتها الاستيعابية وتطوير المنطقة بأكملها.

وتوضح التوصيات أن هناك بعض المباني تحتل مواقع متميزة على مقربة من الحرم الشريف، ورغم أن حالتها ليست سيئة إلا أنها لا تقدم خدمة كبيرة في مجال الإسكان، أي أنها غير مستغلة الاستغلال الأمثل. ومع كثرة هذه الفئة من المباني وانتشارها حول الحرم الشريف فإن الأمر يتطلب ضرورة تجميع هذه المسطحات صغيرة المساحة لإقامة مشاريع كبرى يمكن أن تقدم خدمات أكثر وافضل للحجاج والمعتمرين.

وتؤكد الدراسة ضرورة الارتقاء بالمناطق المتدهورة عمرانياً في المناطق الجبلية البعيدة عن الحرم، وتوفير الخدمات اللازمة لحياة السكان بما يرقى بالمنطقة المركزية حضارياً وعمرانياً ويتناسب مع قدسية المكان.

وترى الدراسة أنه من الواجب الاهتمام بإنشاء مواقف السيارات، ووضعها ضمن اشتراطات إقامة العمارات السكنية الجديدة للتغلب على الاختناقات المرورية والحد من التداخل بين حركة المشاة وحركة السيارات في كثير من الأماكن.

وكشفت الدراسة عن تباين عجيب في معالجة واجهات المباني، وبعد الكثير منها عن ملامح وسمات العمارة المكية المميزة، مما يستلزم وضع الشروط اللازمة للالتزام بعناصر ومفردات التراث العمراني في المنطقة شكلاً ومضموناً.

وتشدد الدراسة على ان الزيادة المطردة في أعداد الحجاج والمعتمرين تستوجب إعادة النظر في بعض اشتراطات وأنظمة البناء المعمول بها في المنطقة المركزية، للإسهام في حل الكثير من المشاكل العمرانية والبيئية والصحية والأمنية والمرورية والتنموية التي تعاني منها المنطقة، ولتعزيز الجهود التي تبذلها الدولة للارتقاء بالمنطقة عمرانياً وحضارياً.