«قصر النعسان» يقف شاهدا على تراجع الاهتمام بفنون الزخرفة الشرقية والحرير الدمشقي

أسرة حورانية بنت القصر ومعمل الشرقيات السورية الشهير

TT

في المدخل الشرقي للعاصمة السورية دمشق، وبجوار باب شرقي الاثري الذي دخل منه القائد خالد بن الوليد فاتحا المدينة، يجد من يزور دمشق قصر «النعسان» الذي يعد واحدا من اهم قصرين في دمشق الى جانب قصر العظم الشهير. قرب هذا القصر معمل النعسان للصناعات اليدوية وما زال مالكو القصر والمعمل مقيمين في الاول ويستثمرون الثاني. والمالك الحالي هو سليم نعسان (وريث النعسان الكبير) وشقيقه. واهمية هذا القصر مع المعمل تكمن في ان مؤسسهما ذلك الشاب القادم من حوران (جنوب سورية) حاملا معه تفوقه في فنّي «الموزاييك» (الفسيفساء) و«البروكار» (الحرير الدمشقي المقصّب). وهذا الشاب واسمه جرجس نعسان سكن في البداية في حي الميدان ليبني في ما بعد القصر مع المعمل سنة 1720 في منطقة باب شرقي ولتصبح ريادته في «الموزاييك» مدرسة في «الأرابيسك»، وبقيت العائلة تتوارث المهنة مئات السنين حتى عصرنا الحالي. ولكن اذا كان قصر العظم اصبح ملكا للدولة التي حولته الى متحف، فإن قصر النعسان ما زال ملكا لصاحبه الذي يقيم فيه ويفتحه مجانا امام زوار دمشق.

في هذا القصر التقينا حفيد مؤسس القصر ورائد «الموزاييك» و«البروكار» سليم النعسان وكان لنا معه الحوار التالي:

* كيف بدأ جدك مشواره مع الموزاييك والبروكار ومن ثم كيف انتقل الى دمشق مؤسسا مدرسة الارابيسك؟

ـ نحن من عائلة النعسان التي تقيم منذ اكثر من 500 سنة في حوران، وفي عام 1720 انتقل جدي الى دمشق واسس معمل النعسان الشهير للشرقيات الذي انتج في البداية الموزاييك بعدما اهتم بجمع آثار فن الفسيفساء القديمة المعروفة في العهدين الروماني والبيزنطي مع الخشب ومعها ابتكر زخرفة جديدة دعاها بـ «الموزاييك» وبعد ذلك طوّر احد اجدادي ويدعى سليم ايضا «البروكار» الحرير الدمشقي المقصّب عام 1820 بعدما ابتكر الزخارف الفنية الابداعية على الحرير الطبيعي.

* لماذا لم يؤخذ اجدادك الى اسطنبول ابان العهد العثماني كما كان يحصل مع الحرفيين المهرة؟

ـ عائلتنا ليست مشهورة بمالها او بانها اقطاعية وانما جاءت شهرتها من عملها اليدوي. لم تقتصر على «الموزاييك» و«البروكار»، بل كنا نصنع الاسلحة والسكاكين والسيوف الدمشقية. وفي العهد العثماني كان الجيش العثماني يأخذ هذه السيوف من عندنا، لذلك اصدر احد السلاطين العثمانيين فرمانا نص على ان كل شخص يعمل لدى بيت النعسان بدمشق لا يؤخذ الى «سفر برلك» (الخدمة العسكرية الالزامية في اطراف الدولة). ومع ان العثمانيين ما زالوا يأخذون اعمالنا الى اسطنبول، لكنهم ابقوا على اجدادي وتلامذتهم في دمشق. فتسنى لاجدادي تطوير عملهم فاشتغلوا مثلا بتنزيل الفضة على النحاس والنقش على الخشب والصدف. ولذلك من يزور اسطنبول اليوم، خاصة قصري توب كابي وضولمة بهجة سيشاهد اعمالنا الفنية محفوظة هناك وعليها توقيع اجدادي.

ايضا من الامور التي نعتز بها في تاريخ اجدادي ان الملكة اليزابيث الثانية ملكة بريطانيا الحالية توجت بفستان عربي من «البروكار» من صنعنا نحن واهدته الحكومة السورية لبريطانيا بمناسبة تتويج الملكة.

* ولكن هل سجل ابتكار الموزاييك و«البروكار» باسم جدك جرجس؟

ـ لم يكن هناك تسجيل اختراعات ولكن اسم النعسان مرتبط بالشرقيات منذ اكتشافها. ونحن كان لدينا محلات في كثير من دول العالم. فقبل الحرب العالمية الاولى كان عندنا سبعة محلات للأرابيسك الذي نصنعه في اوروبا، فكنا نملك محلين في شارع اوكسفورد ستريت بلندن، وفي باريس، ولدينا محلات في الجزائر وتونس وخان الخليلي في القاهرة.

* من تتذكر من المشاهير الذين زاروا معملكم وقصركم؟

ـ هناك الكثير من الشخصيات المهمة العالمية زارتنا وسجلت كلمات وتواقيعها موجودة في «الكتاب الذهبي» لدينا ومنهم الرئيس الراحل جمال عبد الناصر الذي اعجب بعملنا كثيرا وبقصرنا، ولكنه في عهد الوحدة امّم معملنا فاضطررنا الى مغادرة دمشق والعمل في لبنان والاقامة هناك. ومن المشاهير الآخرين الاغاخان الحالي الذي كتب عبارة جميلة في «الكتاب الذهبي». كذلك زارنا الرؤساء نيكسون وكارتر وشيراك من الولايات المتحدة وفرنسا.

ومن المحطات المهمة في حياة العائلة صنع جدي سليم نعسان فرش قصر الملك عبد العزيز آل سعود ـ رحمه الله ـ في الرياض، وما زال إمضاء جدي عليه. كذلك نحن من صنع فرش قصر الملك عبد الله الاول جد الملك الراحل حسين في الاردن.. وكذلك صنعنا فرش الصالة الدمشقية الشهيرة. وكل صناعتنا اليدوية كانت من «الموزاييك».

* من ورث اجدادك؟

ـ انا وما زلت اشتغل بالشرقيات واحافظ على المعمل القديم مع القصر وهو خاص بـ «البروكار» و«الموزاييك» ولدينا محلات. ولكن ليس الحال كما كان في السابق. فلم تعد تتوفر اليد العاملة، والناس صارت تركض نحو الدراسة ولم يعد احد يعلّم ابنه «الكار» (المهنة) وانما اصبح يرسله للجامعة واغلب العمال لدي حاليا هم بأعمار 60 و70 سنة، ولا يوجد شبان، فالمتعلم يتجه للوظيفة ولا يقبل العمل اليدوي هنا على الرغم من الدخل الجيد عندنا. وتدني اليد العاملة أدى الى تدني مستوى البضاعة لأن الجميع حاليا يبحث عن الكسب المادي والربح السريع بينما الشرقيات والارابيسك ومنها «الموزاييك» و«البروكار» تحتاج لوقت طويل لانتاجها، فلا يمكن انتاج «موزاييك» مثلا بساعتين، بل تحتاج القطعة المشغولة جيدا الى شهرين لانها فن وابداع ولذلك لا يلتقي الفن والابداع مع المال.

* وهل ستورّث المهنة لاولادك؟

ـ لدي شاب وفتاة، والواقع الحالي لا يتلاءم مع المهن اليدوية لذلك قمت بشراء منزلين في حارتي الدمشقية القديمة الى جانب القصر وسأحولهما الى فندق وسيتولى ابني استثماره، فهو متخصص بالسياحة، وابنتي درست الفنون وسيعملان بالسياحة.

* لنتحدث عن قصر النعسان، لماذا لم يفكر جدك في هدمه وبناء منشأة حديثة عليه (قبل منع الهدم في دمشق القديمة)؟

ـ قصر النعسان هو ثاني قصر في دمشق بعد قصر العظم من حيث الاهمية والمساحة، فمساحته تبلغ اربعة آلاف متر مربع مع المعمل وغرفه كثيرة ويضم طابقين، وقد جعلنا الطابق الارضي مكانا لاستقبال السياح والزوار مجانا والطابق الثاني اسكن فيه انا واخي مع اسرنا. والقصر يضم ممرات وفسقيات واواوين وليوانا وزخارف رائعة وهو لا يقدر بثمن. وانا ابغض كل من يهدم منزلا في دمشق القديمة. فهذا تراث وتاريخ فكيف لنا ان نهدم قصرنا من أجل المال. في هذا القصر تراثنا وتاريخنا ولا يمكننا ان نبيع كل ذلك! عندما ذهبنا قسرا الى لبنان وعشنا برفاهية بقينا هناك عشرين سنة ولكن مع ذلك عدنا الى دمشق رغم كل المغريات في بيروت والعيش المريح، لم نستطع التخلي عن سورية، فمن ليس له وطن ليس له عائلة.

* قلت انكم غادرتم قسرا الى لبنان، ماذا فعلتم هناك؟

ـ كما ذكرت لك بسبب التأميم تركنا دمشق وذهبنا الى بيروت وهناك ركبنا احدث السيارات واهتممت بسباقات السيارات حتى انني فزت بالمرتبة الثانية عام 1960 في سباق بيروت ـ عاليه، وكان سباقا مهما للسيارات وشارك فيه الملك الراحل حسين بسيارة مرسيدس، كذلك اهتممت بتربية الخيول العربية الاصيلة وكان عندي 180 حصانا اصيلا اشارك بها في سباقات الخيل في دول العالم وكانت موجودة في اسطبلات في رياق ومنطقة صبرا وشاتيلا. ولكن عند الاجتياح الاسرائىلي لبيروت عام 1982 ـ وكنت وقتها في باريس ـ قرأت في الصحف انهم اجتاحوا صبرا وشاتيلا وقتلوا حتى خيولي الموجودة هناك. وقتل منها 120 حصانا. ولحزني عليها اهديت الـ 60 حصانا المتبقية لشخصيات عربية ـ لا اريد ان اذكرها ـ وهي تهتم بالخيول الاصيلة، وتركت على اثرها تربية الخيول الاصيلة.

* ما هي املاكك حاليا وكم هي ثروتك؟

ـ قد لا تصدق انني لا املك مالا ولا املك حسابا لا في بنك اجنبي ولا محلي ولا املك سيارة حديثة، بل املك سيارتين قديمتين موديل 1959. وانا لم اعمل في حياتي على تجميع المال فثروتي اعتبرها فن الأرابيسك، وهذا القصر الذي لا يقدر بثمن والمعمل الذي ورثته عن اجدادي.

=