أثينا تحتفل بافتتاح مكتبة الإسكندرية

أحمد عثمان

TT

في حفل موسيقي على مسرح ايروديو اتيكو بوسط اثينا، احتفلت اليونان في الرابع من اكتوبر (تشرين الأول) الحالي بافتتاح مكتبة الاسكندرية الجديدة. قدم الحفل برنامجا اعده الموسيقار ديمتري بابا ديميتريو، قبل 12 يوما من الاحتفال الذي يقيمه المصريون بهذه المناسبة. وتحت رعاية وزارة ثقافة اليونان، قدم الاوركسترا السيمفوني الوطني لليونان موسيقى بابا ديميتريو الذي قسم الاحتفال الى ثلاث فقرات، من الشعر اليوناني والموسيقى اليونانية والغناء اليوناني، وساهم فيه عدد كبير من الممثلين والمطربين اليونانيين المعروفين، كما قام التلفزيون اليوناني بالاشراف على ترتيبات الحفل واذاعته وتسجيله. وسوف يعيد الفنانون اليونان احتفالهم في الاسكندرية بمصر هذا الاسبوع، عقب الافتتاح الرسمي للمكتبة يوم 16 من الشهر الجاري.

واعتبر اليونانيون افتتاح مكتبة الاسكندرية بمثابة حدث قومي مهم لبلادهم، يحضره كبار المسؤولين في الدولة وعلى رأسهم الرئيس كوستيس ستيفانوبوليس ووزير الخارجية جورج باباندريو ووزراء الثقافة والتنمية والسياحة وعمدة اثينا وعدد آخر من المسؤولين، ومعهم الف يوناني يسافرون على سفينة خاصة من اثينا، لحضور احتفالات افتتاح المكتبة هناك. كما ساهمت وزارات الخارجية والثقافة والدفاع والعديد من الفنانين اليونانيين، في الاعداد للاحتفالات التي تقام في الاسكندرية. واشار نيكولاس باباكو ستيفانوف المستشار الثقافي اليوناني بالقاهرة، الى ان اليونان قررت المساهمة باهداء المكتبة العديد من الكتب والتماثيل والتحف التي تمثل الحضارة اليونانية. كما بذلت الحكومة اليونانية جهوداً كبيرة لتحويل احتفال المصريين بافتتاح المكتبة الجديدة، الى احتفال باحياء حضارة الاغريق، وعملت على تأكيد اعتقادها بأن مدينة الاسكندرية القديمة كانت يونانية، فأصدرت مجلدا يحتوي على اسماء المدن اليونانية القديمة بمناسبة بداية الالف الثالثة للميلاد، جرى فيه توثيق مدينة الاسكندرية باعتبارها احدى مدن اليونان، وطالبت الحكومة بوضع تماثيل لشعراء اليونان، عند مدخل مكتبة الاسكندرية الجديدة، تأكيدا للطبيعة اليونانية لهذا المركز الحضاري المصري. كما تم احضار تمثال صنعه اليونانيون ويمثل الاسكندر الاكبر على شكل بطل يوناني جاء مصر غازيا، تم وضعه في ميدان عبد المنعم رياض بشارع جمال عبد الناصر عند المدخل الشرقي للمدينة القديمة. وجرى بناء بوابة على الطراز اليوناني عند المدخل الغربي للمدينة القديمة كتب عليها اسم الاسكندرية باليونانية، واعدت حدائق الاسكندرية على الطريقة اليونانية حتى يشعر الزوار الذين يحضرون افتتاح المكتبة بطبيعتها اليونانية.

ويرحب المسؤولون المصريون المشرفون على مكتبة الاسكندرية بمساهمة اليونان، باعتبارها نوعا من الانفتاح على العالم الخارجي. وعندما ذهب الدكتور اسماعيل سراج الدين مدير المكتبة الى اثينا للمشاركة في الاحتفال اليوناني، سألوه عن رأيه في ما سبق ان اثرناه في هذه الصفحة من ان المكتبة القديمة كانت مصرية، وليست يونانية، وجاء رد الدكتور مؤكدا ان ما تضمنته المكتبة من مخطوطات، كان مكتوبا باليونانية. ويؤكد الدكتور عادل ابو زهرة، وهو استاذ العلوم السلوكية بجامعة الاسكندرية، اعتقاده بالطبيعة اليونانية للمكتبة فيقول: «لم تجد الثقافة اليونانية ملجأ لها خيرا من مصر.. وبين فتح الاسكندر لمصر في القرن الرابع قبل الميلاد والفتح العربي الاسلامي في اواسط القرن السابع ازدهرت في مصر ثقافة انسانية جديدة.. هي الثقافة الهيلينية التي ظلت حية في المدارس والأديرة الى نهايات العصور الوسطى، وكانت مصدراً من أهم مصادر الفكر الاسلامي (الأهرام 9 فبراير 2000).

* المكتبة القديمة

* كانت الفكرة السائدة حتى القرن التاسع عشر، تؤكد الطبيعة الشرقية لمكتبة الاسكندرية التي جمعت تراث الأمة العربية في مصر وبابل وسورية وبلاد الفرس، تبلورت في بوتقة ثقافية واحدة، الا انه منذ عصر التنوير الاوروبي وبداية استعمار الرجل الابيض للعالم الثالث في القرن التاسع عشر، تغيرت الاجابة عن هذا السؤال ـ بحيث صارت الاسكندرية ومكتبتها تراثا يونانيا غربيا، زرع في ارض مصر بعد ان ماتت حاضرة المصريين ولم يعد لها وجود. ولم يأت تغير الاجابة بناء على اكتشاف حقائق لم تكن معروفة من قبل، بل بناء على عقيدة عنصرية ظهرت في اوروبا تقول بتفوق الرجل الابيض، وعدم قدرة الشرقيين على انتاج الفكر الفلسفي او البحث العلمي. ويشارك اساتذة الدراسات الكلاسيكية المصريون، التنويريين الغربيين في اعتقاداتهم بالطبيعة اليونانية للاسكندرية ومكتبتها. ويذهب الدكتور مصطفى العبادي، وهو استاذ متفرغ بقسم الآثار والدراسات اليونانية بكلية الآداب جامعة الاسكندرية والدكتور احمد عثمان استاذ الدراسات اليونانية بجامعة القاهرة، الى ان القرون الثلاثة الاخيرة قبل الميلاد عندما حكمت مصر اسرة الملوك البطالمة وآخرهم كليوباترا، تمثل عصرا يونانيا، مؤكدين ان ديميتريوس فاليرون اليوناني ـ وليس مانيتون المصري ـ هو الذي عهد اليه الملك بإنشاء مكتبة الاسكندرية، فأقامها على اساس من المراجع اليونانية عندما احضر مكتبة الفيلسوف ارسطو من اثينا، وهو الذي تولى مشروع ترجمة كتب التوراة من العبرية الى اليونانية: لتكون جزءا من المكتبة.

وعلى العكس من هذه التفسيرات التي لا تستند إلا إلى اساس آيديولوجي عقائدي فقط، تؤكد المصادر التاريخية المعاصرة للمكتبة والكشوفات الأثرية الحديثة، الطبيعة المصرية والشرقية للاسكندرية ومكتبتها. فعندما جاء الاسكندر الاكبر المقدوني الى مصر عام 331 قبل الميلاد، قرر بناء مدينة الاسكندرية على أرض شبه مستطيلة بين البحر المتوسط شمالا وبحيرة مريوط جنوبا، لتكون عاصمة مصر الجديدة. وسرعان ما اصبحت الاسكندرية أهم مركز للبحث والدراسة في العالم القديم، بفضل سياسة الملوك البطالمة الذين خلفوا الاسكندر في حكم مصر. فقد انشأ بطليموس الأول (280 قبل الميلاد) الوسيون (المتحف) في الجزء الجنوبي الغربي من قصره ليكون مسكنا للوافدين الاجانب من الشعراء والباحثين الاجانب، كما انشأ معبد السرابيوم بالحي المصري. وعندما تولى بطليموس الثاني الحكم بعد أبيه، اقام المكتبة داخل معبد السرابيوم الواقع بالقرب من المدافن غربي القصر الملكي، وعهد الملك بمهمة اعداد المكتبة الى الكاهن المصري مانيتون الذي قام ـ اعتمادا على المصادر التي وجدها في مكتبات معابد عين شمس ومنف ـ بعمل نسخة من الكتب المصرية مترجمة الى اليونانية لوضعها في معبد السرابيوم بالاسكندرية. وقدم مانيتون ثلاثة مراجع رئيسية للمكتبة: الأول يتضمن ملخصا للتاريخ المصري القديم حتى بداية حكم البطالمة، والثاني يتضمن الكتابات المقدسة والشروحات الفلسفية والفقهية لها، أما المرجع الثالث فيختص بقوانين العلوم الفيزيائية الطبيعية. كما تم جمع كتب التوراة بالاسكندرية وترجمتها الى اليونانية لتوضع في مكتبتها، وتضمنت المكتبة معارف الحضارات القديمة في مصر وبابل وسورية وفارس. والى جانب اشعار اليونان وفلسفتها، حوت المكتبة كتب اللغة والبلاغة والفقه والقانون والجغرافيا والتاريخ والفلسفة والمنطق والرياضة والفلك والهندسة والطب والكيمياء والفيزياء، فكانت هذه هي المرة الأولى في تاريخ البشرية التي فيها تجمعت مصادر تراث الحضارات القديمة كلها في مكان واحد مدونة بلغة ابجدية واحدة، مما يتيح للدارسين الاطلاع عليها.

* البحث العلمي

* رغم ان المكتبة الجديدة تتسع لما يصل الى 8 ملايين كتاب، فهي لا تضم الآن سوى مائتي ألف مؤلف في مجال الدراسات الإنسانية والاجتماعية، وتخلو من دراسات العلوم الطبيعية والفيزيائية. فبدلا من قيام هيئة من الأكاديميين المصريين بتحديد أهداف المكتبة بناء على احتياجات المجتمع المصري والمجتمع العربي بشكل عام، وتتولى اختيار الكتب والموضوعات التي يجب الحصول عليها، ووضع برنامج للنشاط البحثي الذي تقوم به، ترك الأمر لشخص واحد غير متخصص لا في البحث ولا في المكتبات. فالدكتور محسن زهران المهندس المعماري الذي اشرف على بناء المكتبة، هو الذي تولى هذه المهمة بمساعدة خبراء من اليونسكو. وقرر زهران استبعاد المواد العلمية والتكنولوجية، على ان تركز المكتبة، عملها على المجموعات المتعلقة بالحضارة المصرية وحضارات الشرق الأوسط والحضارة اليونانية والرومانية، ونشوء القبطية والتراث الاسلامي، مع الاهتمام بوجه خاص بتاريخ العلوم والمصنفات التي يرجع وجودها الى المكتبة القديمة. وليس هذا فحسب بل انه رغبة منه في خفض النفقات، تم تجميع غالبية المؤلفات التي حصلت عليها المكتبة بطريقة عشوائية، على شكل هدايا من مختلف الدول الاجنبية دون وحدة لا في اللغة ولا في الموضوع. وهناك هدايا من اليونان واسبانيا وروسيا وألمانيا وبريطانيا والبلدان الآسيوية والأفريقية والعربية، كل بلغة بلاده، ضمن 200 ألف مجلد موجودة بالمكتبة. وبينما شهدت مكتبة الاسكندرية القديمة مولد العلوم الحديثة في الكيمياء والفيزياء والبيولوجيا والطب والفلك والرياضيات، تعود المكتبة الجديدة بلا علم ولا بحث او دراسة. وفي وقت يقوم فيه الباحثون في اوروبا واميركا بتفجير الذرة واستنساخ الإنسان والحيوان والنبات، بينما وصلت المركبات الفضائية الى جميع انحاء مجموعتنا الشمسية، وتم الكشف عن خريطة الجينوم البشري وبدأ انتاج اجهزة الكومبيوتر التي تقوم ببعض عمليات التفكير، تبدأ مكتبة الاسكندرية نشاطها بعيدا عن مجالات العلوم والتكنولوجيا.

وكانت جريدة «الفايننشال تايمز» البريطانية قد نشرت في اول اغسطس (آب) 1998 تحقيقا عن مشروع مكتبة الاسكندرية وعلق مارك هوباند كاتب التحقيق قائلا ان رؤية المصريين تبدو غير واضحة بخصوص تراثهم القديم وان «ما بدا على انه تشوق رومانطيقي لاعادة بناء العظمة القديمة (للحضارة المصرية) واجتذب ميزانية تبلغ 167 مليون دولار من الحكومة المصرية واليونسكو ومتبرعين آخرين، يجري استهلاكه (الآن) عن طريق خداع النفس». في ذلك الوقت كتبت رسالة نشرها رئيس تحرير «الفايننشال تايمز»، اعترض فيها على تعليق مراسلها في القاهرة. والآن اجد نفسي مضطرا لتقديم الاعتذار لـ«الفيننشال تايمز» ومراسليها.