الكشف عن آثار حريق مدينة صيدا القديمة

أحمد عثمان

TT

تمكن الأثريون للمرة الأولى من تأكيد الروايات القديمة، التي تحدثت عن ثورة مدينة صيدا في جنوب لبنان، في مواجهة الحكام الفرس، منذ حوالي الفين وخمسمائة سنة. فقد استطاع الملك قورش الفارسي ان يهزم الميديين عند منتصف القرن السادس قبل الميلاد، مما مكنه من توحيد شعوب إيران تحت امرته. وكان لهذه الوحدة اثر كبير على منطقة الشرق الأوسط كلها، اذ خرجت القوات الفارسية متجهة غربا وعبرت نهر دجلة عند مدينة اربل (اربيل) الاشورية، وسرعان ما انهارت مدن شمال ما بين النهرين امام الفرس الغزاة واصبحت بابل العاصمة في الجنوب معرضة للخطر. وكان نبونيدس امبراطور بابل يومذاك قد نقل مقره الى مدينة تيماء بشمال الجزيرة العربية (السعودية اليوم) فأسرع بالعودة الى بابل، ولكن الوقت كان قصيرا والمبادرة قد اصبحت في ايدي ملك الفرس الذي سرعان ما دخل بابل منتصرا بدون قتال، عام 539 ق.م.

وبسقوط عاصمة الامبراطورية البابلية في ايدي قورش، اصبحت سورية وفلسطين وفينيقيا خاضعة للفرس، وطال حكم ملوك الفرس الذي طال قرنين من الزمان وحتى مجيء الاسكندر المقدوني عام 323 ق.م. ولم تحدث اية ثورات ضد الحكم الفارسي الا في صيدا.

ففي 399 قبل الميلاد نشبت ثورة عارمة في المدن الفينيقية ضد الفرس بقيادة ملك صيدا الا ان الفرس هاجموهم بقوات كبيرة، وبدلا من الاستسلام أمام العدو اغلق اهل صيدا أبواب المدينة على انفسهم واشعلوا فيها النيران، فمات 40 ألف شخص في تلك الحادثة. البعثة البريطانية العاملة في صيدا عثرت اخيرا على ما يؤكد حدوث حريق كبير في صيدا، ايام الحكم الفارسي، فقد كشفت البعثة عن غرفة غير عادية بنيت على الطراز الفارسي ابعادها 4م و 60 سم X 5م و 70سم، حفرت على عمق 6م و 70سم تحت سطح الأرض، تتكون جدران هذه الغرفة من قوالب مزينة مستطيلة الشكل، وذات احجام مختلفة، وارضيتها مرصوفة بقطع مستطيلة، تمتد بين الشرق والغرب.

ووجد الاثريون علامات تبين ان هذه الغرفة تعرضت لحريق مروع ادى الى تدميرها، بدليل وجود آثار النار فوق الجدران وقطع من البقايا المحروقة والمتفحمة. ووجدت البعثة ايضاً ادلة تشير الى ان هذا الحريق وقع ايام الحكم الفارسي، اذ عثر على مثبتات معشقة لامساك الالواح على الطريقة الفارسية منذ عصر الامبراطور قورش. كما اكدت الفحوص الكربونية للبقايا الخشبية الموجودة في الغرفة، عن طريق نظام الكربون 14، ان الحريق يرجع الى ايام الفرس.

* مدينة الميناء

* حصلت البعثة البريطانية على تصريح للتنقيب في صيدا عام 1998 من سلطات الآثار اللبنانية، للقيام بأعمال الكشف الأثري في موقع مدينة صيدا القديم. ومع ان صيدا واحدة من اهم المدن الفينيقية، فإنها ظلت حتى الآن مجهولة للمؤرخين، سوى ما وصلنا عنها عن طريق سجلات الدول المجاورة في مصر وأشور وبابل، ثم عن طريق كتابات الرحالة اليونان.

عرفت صيدا في الازمنة القديمة باسم «مدينة الميناء» او «ارض صيدا عند البحر»، وتضمنت تلاً كبيراً توجد فوقه الآن بقايا قلعة سانت لويس التي اقامها الصليبيون.

بدأت بعثة المتحف البريطاني عملها في موقع مدرسة الفرير عند المدخل الشرقي للمدينة القديمة في صيدا منذ عام 1998 بقيادة الخبيرة الاثرية كلود سرحال، وكان أول ما عثرت عليه من البقايا هي الاستحكامات التي تعود الى العصور الوسطى عند قلعة الصليبيين. ثم كشف الاثريون عن بناية ترجع الى العصر البرونزي الأول في الألف الثالث قبل الميلاد، وازاحوا طبقة من الرمال ارتفاعها 90 سم من الطبقة الأرضية التي تعلو هذا الموقع مباشرة وتعود الى بداية الألف الثانية.

وبعد ذلك عثروا على بقايا اثرية ترجع الى العصر البرونزي الوسيط في الفترة ما بين 2000 و 1500 سنة قبل الميلاد، تتمثل في بعض المدافن العائدة لمحاربين كنعانيين على عمق ستة أمتار وقد دفنت معهم فؤوسهم ورماحهم كما كانت العادة بين الاقوام التي سكنت فلسطين وسورية، الى جانب الاواني الفخارية ثم امكن الكشف عن اساسات لبناء جرى تصميمه على شكل هندسي منتظم. وتمكن الاثريون خلال العمل في الموسم الكشفي الرابع هذا العام من التعرف على تاريخ هذه البقايا، عن طريق بعض الاختام المصرية التي وجدوها في الموقع.

وتبين ازدياد عدد الدفنات في قبور العصر البرونزي الوسيط وسط الرمال، مما يدل على زيادة عدد سكان مدينة صيدا منذ أربعة آلاف سنة. وهنا عثرت البعثة على 6 مقابر احدها لمقاتل دفنت معه فأس لها يد خشبية، وبعض العظام الحيوانية والأوعية الفخارية، من بينها كأس متعددة الألوان صنعت في جزيرة كريت. وعثر ايضا على أربعة اطفال دفنوا داخل اوعية فخارية، ومعهم جعارين مصرية وبعض الحلي. ومما ساعد في تحديد الزمن التاريخي لهذه المقابر، ما وجد في ثلاثة منها من بقايا مصرية تعود الى العصر البرونزي الوسيط وفي الطبقة الأرضية التي تعلو هذه المرحلة وترجع الى العصر الحديدي وبداية الالف الأول قبل الميلاد، وجدت كتابات فينيقية للمرة الأولى في صيدا منقوشة على قطع من الفخار.

وضعت البعثة لاحقاً، خطة تهدف الى التعرف على المراحل المختلفة لتاريخ المدينة عن طريق حفر عميق يصل الى الارضية الصخرية التي بنيت عليها المدينة القديمة. وتمكنت سرحال التي تقيم في لندن، من التعرف على بقايا من العصر البرونزي القديم قبل حوالي خمسة آلاف سنة كانت مدفونة على عمق ثمانية امتار من سطح الأرض وقد ازيحت الرمال عن بقايا لبعض المساكن والأدوات الفخارية التي تعود الى العصور الفينيقية الأولى. اما في الطبقات الأرضية التي تعلو المرحلة الفارسية فعثرت البعثة على صليب محفور يرجع الى العصر الروماني البيزنطي، مما يدل على ان صيدا ظلت معمورة بشكل متواصل خلال تلك العصور. وبهذا الكشف يكتمل التسلسل في موقع الفرير، منذ 3500 سنة قبل الميلاد. وبذا تكون البعثة البريطانية قد اكدت المراحل التاريخية التي مرت بها صيدا، منذ العصر البرونزي الأول (قبل خمسة آلاف سنة) وحتى الحكم البيزنطي قبيل الدولة الاسلامية في القرن السابع للميلاد.

امر آخر على جانب من الاهمية هو انه بالرغم من تحدث المصادر المصرية والاشورية القديمة عن صيدا، التي ورد ذكرها كذلك في الكتب التوراتية والانجيلية الى جانب روايات الرحالة الاغريق، لم يتيسر التعرف بصورة واضحة على معالم المدينة القديمة الا نتيجة التنقيبات الاثرية في العصر الحديث. وكانت اعمال التنقيب الاثري في صيدا قد بدأت عام 1914 على يد الفرنسي جورج كونتونو، الذي تابع عمله في 1920. ثم جاء فرنسي آخر هو موريس دونان للعمل خلال الحرب العالمية الثانية ثم في منتصف ستينات القرن الماضي. وكان روجيه صيدح اول لبناني يتولى اعمال الكشف الاثري في منطقة الدكرمان بصيدا في الستينات كذلك، وقد استطاع العثور على بقايا تعود الى العصر الحجري في هذا الموقع.

* الفينيقيون

* اليونان هم أول من أطلق على سكان الساحل السوري الاوسط والجنوبي اسم «الفينيقيين»، اذ وردت هذه الكلمة للمرة الأولى في كتابات الشاعر الاغريقي هوميروس خلال القرن الثامن ق.م. وسبب هذه التسمية يرجع الى ان لبنان كان ينتج نوعاً من القماش المصبوغ باللون الأحمر الارجواني المائل الى البنفسجي، ويبيعه في البلاد الاغريقية. ولما كانت كلمة «فينيقي» عند اليونان تعني اللون الاحمر، استعملوها للدلالة على الساحل اللبناني وسكانه. وكان المصريون يسمونهم «خارو»، أما الفينيقيون فاطلقوا على الواحد منهم اسم «كنعاني» وعلى بلادهم ارض «كنعان». واطلق الكتاب اليونان اسم فينيقيا بشكل عام على كل المنطقة الساحلية لبلاد الشام الذي يتضمن السواحل الحالية السورية واللبنانية والفلسطينية، الا انهم استعملوا هذا الاسم كذلك للدلالة على الشريط الساحلي اللبناني الضيق ما بين طرابلس الحالية في الشمال والطنطورة «جنوب حيفا» في الجنوب، وكانت أهم المدن الفينيقية جبيل وصيدا وصور.

وينتمي الفينيقيون الى قبائل الاموريين الكنعانية التي جاءت من الجزيرة العربية في اوائل الألف الثالثة قبل الميلاد. ولأن بلادهم محصورة في شريط ضيق بين مياه البحر والجبال، صار البحر هو الطريق الطبيعي الوحيد المفتوح امامهم وساعدهم وجود غابات الارز فوق الجبال في استخدام اخشابها في صناعة السفن. وصار الفينيقيون من اوائل شعوب العالم التي تجوب البحار وتنقل التجارة ما بين موانئ آسيا وأوروبا وافريقيا حتى أصبحت كلمة «فينيقي» تعني «تاجر» عند معظم الشعوب. وخرج اول مستعمرين في العالم من المدن الفينيقية وخاصة من صور لبناء مستعمرات لهم في شمال افريقيا والجزر الاغريقية، ويقال انهم وصلوا الى ايرلندا والجزر البريطانية في الشمال. وهكذا تحول الفينيقيون من صيادين للأسماك الى تجار عالميين وبحارة ينقلون التجارة بين الشرق والغرب. وكانت جبيل هي اقدم مدينة تظهر على الساحل الفينيقي وقد سماها اليونانيون «بيبلوس»، ومن هذا الاسم الذي اشتقت كلمة «بايبل» Bible التي تدل على التوراة والانجيل لدى المسيحيين، بسبب حصول اليونان على ورق البردي المصري المستخدم في الكتابة عن طريقها.