هل مساكن بني إسرائيل في صعيد مصر؟

أحمد عثمان

TT

اعلن مانفرد بيتاك، استاذ المصريات في جامعة فيينا ومدير المعهد النمساوي للآثار في العاصمة المصرية القاهرة، انه تعرف على بيوت لبعض العمال ـ او العبيد ـ في موقع يعرف باسم «مدينة هابو» في الضفة الغربية لمدينة الاقصر بصعيد مصر.

اذ تبين له وجود بقايا مساكن بنيت من الجريد، تتكون من اربع غرف على طراز يعتقد الأثريون انه يخص بني اسرائيل، عثر على نماذج منها في فلسطين. واستنتج بيتاك من ذلك وجود جماعات بني اسرائيل في مصر في تلك الفترة خلال النصف الثاني من القرن 12ق.م. ولو صح استنتاج الآثاري النمساوي الذي نشره في العدد الاخير من مجلة «بيبليكال آركيولوجي» فإن مسكن مدينة هابو اول دليل اثري لبني اسرائيل يعثر عليه في مصر.

تقع مدينة هابو في المنطقة الجنوبية للبر الغربي لمدينة الاقصر عند النقطة التي تلتقي فيها ارض وادي النيل الخصبة مع رمال الصحراء، حيث بنى ملوك الاسرة الثامنة عشرة معبدا جنائزيا (ضريح) في هذا المكان اعتقادا منهم بأن «آمون» ظهر فيه للمرة الاولى.

ثم شيد عدد من ملوك عصر الامبراطورية بعد ذلك معابدهم الجنائزية من حوله. وكان آخرهم رمسيس الثالث آخر الملوك المصريين العظماء وثاني ملوك الاسرة العشرين (1198 ـ 1177 قبل الميلاد).وعام 1930 اجرت البعثة الاثرية لجامعة شيكاغو عمليات تنقيب في مدينة هابو، فعثرت على قصر رمسيس الثالث وبعض المعابد الجنائزية. كما كشفت البعثة عن بعض الاكواخ حفرت اساساتها في الارضية الصخرية لمعبد حور محيب. ويذهب بيتاك الى ان هذه الاكواخ بنيت لسكنى بعض العبيد، الذين جيء بهم لهدم المعبد في عصر رمسيس الرابع. ولما كان تصميم بناء الاكواخ يختلف مع النظام المتبع في مصر ويتفق مع نظام ظهر في فلسطين، استنتج بيتاك ان العبيد الذين سكنوها كانوا كنعانيين. وتأكيدا لهذا استند الباحث الى ما ورد في المصادر المصرية، من ان رمسيس الثالث تمكن من أسر بعض البدو من قبائل «الشاسو» وارسلهم عبيدا في معابد مدينة هابو. ويبدو ان بيتاك اعتبر قبائل الشاسو، من بني اسرائيل. وهذا في اعتقاد البعض اتجاه خاطئ يضعف استنتاج الباحث النمساوي.

* أقوام البحر

* مما يذكر انه تعرض الساحل الشرقي للبحر الابيض ـ من بلاد الاناضول في الشمال عبر سورية وفلسطين الى مصر في الجنوب ـ لموجة عارمة من الغزاة، دمروا العديد من المدن الساحلية في هذه المناطق.

اذ هاجمت بعض الاقوام الاغريقية التي تعرضت بلدانها للدمار نتيجة للزلازل والبراكين خلال القرن الثاني عشر قبل الميلاد، بحثا عن موطن جديد لها في الشرق الادنى.

وقد وصلتنا تفاصيل كثيرة عن غزوات اقوام البحر، عن طريق الكتابات التي تركها رمسيس الثالث في مدينة هابو.

ففي العام الثامن من حكم هذا الملك تعرضت منطقة شرق البحر المتوسط من بلاد آسيا الصغرى في الشمال الى الساحل السوري والكنعاني ثم المصري في الجنوب، الى هجوم شنه عشرات الآلاف من المقاتلين الآتين من بلاد الاغريق بسفنهم ومراكبهم. كما تعرضت جزيرة قبرص لموجات مشابهة من الهجمات، بطلها تحالف من قبائل وشعوب جاءت من الجزر اليونانية، يتضمن قبائل «ذكار» و«شكليش» و«دانو» و«وش وش» وكانت قبائل الـ «فليسيت» (فلسط) العنصر الغالب من الاقوام التي نزلت بكنعان.

وقد امتزج هؤلاء مع الاقوام الكنعانية واعطوا اسمهم بعد ذلك الى هذه البلاد (فلسطين) ووصلت الاقوام الغازية الى مصر ودخلت مراكبهم شرق الدلتا عن طريق فرع للنيل اختفى الآن ـ شرق دمياط ـ كان يسمى الفرع البلوظي، فخرج رمسيس الثالث على رأس جيشه لمواجهتهم واستطاع هزيمتهم وايقاف الغزو. وسجل رمسيس تفاصيل قصة حربه مع «اقوام البحر» او «شعوب البحر» هؤلاء، موضحا بالرسوم تفاصيل المعارك على جدران معبده الجنائزي بمدينة هابو بغرب الاقصر.

من ناحية ثانية كان لمدينة هابو اهمية خاصة في التعرف على التاريخ القديم لارض فلسطين. فهي التي ساعدت الاثريين على معرفة الاسباب الحقيقية وراء دمار المدن المنتشرة على طول الساحل الفلسطيني، وكان الاعتقاد سابقا بأن هذا الدمار حصل على يد القبائل الاسرائيلية عند دخولها ارض كنعان. اذ بينت نتائج الحفريات الاثرية ان ساحل كنعان تعرض ـ خلال القرن الثالث عشر قبل الميلاد ـ لموجة كبيرة من الدمار، ثار الخلاف على تحديد زمنها وبالتالي معرفة سبب حدوثها. واصر بعض المؤرخين على ارجاع هذه الموجة من الدمار الذي تعرضت له المدن الكنعانية الى القرن الثالث عشر ق.م، وهي الفترة التي يحددونها لدخول بني اسرائيل الى فلسطين والسيطرة عليها بحسب ما جاء في سفر يشوع.

وسقطت مدينة طروادة الاغريقية امام موجات المهاجمين، كما انهارت امبراطورية الحيثيين او الحثيين (في آسيا الصغرى) تماما ودمرت عاصمتهم «حاتوشاش» بالنيران. واستولى «اقوام البحر» كذلك على كل شمال سورية. ودمرت ايضا مدينتا كركميش واوغاريت (راس شمرا) وهما من اهم مراكز الحضارة القديمة في شمال سورية إذ عثر فيهما على ارشيف من الألواح تحتوي على كتابات قديمة. كما تعرضت مدن الساحل الكنعاني للدمار كذلك، وكانت مصر الوحيدة التي تمكنت من صد هجماتهم، وان فقدت سلطتها على كنعان بعد ذلك. والسر في تفوق «اقوام البحر» انهم كانوا اول الشعوب التي استطاعت استعمال الحديد، وقد صنعوا به اسلحتهم، بينما كانت بلاد الشرق الاوسط ما تزال في العصر البرونزي.

الفنانون المصريون سجلوا وقائع حرب «اقوام البحر» بالصور والكلمات في معبد هابو، ونحن نرى اسفل الرسوم، التي تمثل الغزاة الذين ارتدوا غطاء للرأس به ريش وحملوا دروعا مستديرة، سجلا لما حققه الملك المصري من الانتصارات في هذه الحرب، يقول ما يلي:

«جاء الغزاة بمراكبهم ودخلوا فرع النيل البلوظي وساروا الى ان وصلوا الى شرق الدلتا بالقرب من عين شمس، وهناك التقت بهم قوات رمسيس الثالث في معركة بحرية شرسة». ويتضح من تقرير رمسيس الثالث هذا ـ وتؤكده المصادر التاريخية الاخرى ـ ان هجوم «اقوام البحر» على مصر مني بالفشل، وان كان قد ادى بعد ذلك الى ضعف النفوذ المصري في كنعان الذي راح يتلاشى تدريجيا منذ ذلك الوقت، الى ان انتهى تماما عند نهاية القرن 12ق.م.

وبدأت انواع جديدة من الفخار اليوناني تظهر ـ منذ النصف الاول من القرن 12ق.م ـ في بعض المناطق بجنوب كنعان، وبالرغم من طابعها اليوناني، الا انها صنعت محليا، مما يدعم الرأي القائل بأن «اقوام البحر» كانوا قادمين من بلاد اليونان. ذلك ان الاقوام التي فشلت في هجومها على مصر، تمكنت من انزال بعض وحدات منها على الساحل الكنعاني، وقبل المصريون وجودهم في كنعان. وبينما تطلق عليهم المصادر المصرية اسم «فليسيت» او «بليسيت» تسميهم المصادر الآشورية «بيليستي».