السعودية: دعوة لاستحداث نظام مؤسسي يتولى مهام التراث العمراني

TT

كشفت دراسة بحثية متخصصة في شأن التراث العمراني، نفذتها الهيئة العليا للسياحة في السعودية، عن 4 عوامل أساسية من شأنها المحافظة على هذا المورد وتنميته سياحياً.

وحددت الدراسة التي نفذها المهندس محسن القرني، المشرف على مسار التراث العمراني في الهيئة العليا للسياحة، أسباب تدني الاهتمام بالتراث العمراني الى عدم وجود تنظيم مؤسسي يعنى بالتراث العمراني على المستوى الوطني، وتعدد الجهات الراعية له، وعدم وجود أنظمة ومعايير خاصة بالتعامل معه، وإهمال الجهات المعنية بالتنمية والتطوير لمواقع التراث العمراني السعودي.

جاء ذلك خلال الندوة التي نظمتها الهيئة العليا للسياحة بالتعاون مع وزارة التربية والتعليم ووزارة الشؤون البلدية والقروية والمعهد العربي لإنماء المدن، ومؤسسة التراث بمشاركة نحو 30 ورقة عمل وبحث على مدار ثلاثة أيام. وحاول المهندس القرني من خلال ورقة العمل، التي قدمها في «ندوة التراث العمراني وسبل المحافظة عليه وتنميته سياحياً»، الإجابة عن عدة تساؤلات مهمة في هذا الجانب، مثل دور التراث العمراني كمورد اقتصادي وسياحي، وكمصدر لتنمية المجتمع المحلي، ودوره كأساس للمحافظة على الثقافة المحلية والهوية العمرانية. وتطرق الباحث إلى أسباب تدهور مباني التراث العمراني السعودي، حيث أشار إلى العوامل الطبيعية تارة، وأخرى غير طبيعية، مشددا على العوامل البشرية المتمثلة في غياب الأنظمة ودور المشاريع في هدم التراث العمراني السعودي، والإزالة المقننة للمباني التراثية، وإهمال مواقعها من الناحية التخطيطية والاجتماعية.

ولم يغفل المهندس القرني الإشارة إلى توجهات الهيئة العليا للسياحة نحو المحافظة على التراث العمراني وتنميته، وذلك بالاستثمار في المواقع التراثية، والشراكة في تنفيذ المشاريع النموذجية ومعالجة الملكيات وبدائل التمويل، وعرض نماذج من مواقع التراث العمراني القابلة للاستثمار.

وجاءت الورقة المقدمة من الغرفة التجارية الصناعية في الرياض لتلقي الضوء على مجموعة من التوصيات والمقترحات التي تساعد على توجيه القطاع الخاص نحو الاستثمار في هذا المجال والذي يحتاج إلى جهود لتأكيد فائدة الاستثمار اجتماعياً وثقافياً واقتصادياً، حيث تطرقت لمواقع التراث العمراني بصفة عامة والتي تتميز بالعديد من الخصائص والمقومات التي تؤهلها للاستثمار السياحي، وعزت ذلك إلى أن مواقع التراث العمراني بأنواعها من قلاع وقصور ومبان تاريخية أو قرى وأحياء تراثية أو مراكز للمدن القديمة تعتبر مواقع جذب لذاتها، وذلك لأسباب عديدة تعكس في مجملها أهمية استثمارها، لا سيما أن مواقع التراث العمراني هي في الأصل موارد متاحة كامنة ذات سمات وقدرة عالية على جذب الاستثمار بما يتلاءم مع طبيعة وواقع كل نوع من تلك المواقع الغنية بعناصرها وأجزائها المحسوسة بما يتوافق مع رغبة وإمكانات المستثمرين.

من جانبه تناول المهندس علي السواط من أمانة مدينة الدمام في ورقته دور البلديات في الحفاظ على التراث العمراني في السعودية، حيث يرى أنه سيغطى بالمشاركة في استصدار تشريع وطني يحمي التراث العمراني وإعادة النظر في سياسات تخطيط المدن وأنظمة وقوانين البناء وتراخيص الهدم والإزالة، بالاضافة الى مشاريع الترميم والصيانة التي يمكن أن تتبناها البلديات من خلال تنفيذها بشكل مباشر أو طرحها للاستثمار من قبل القطاع الخاص.

وفي ما اعتمدت الورقة التي موضوعها «دراسة ميدانية لواقع أحياء مدينة الرياض»، على أهمية مبدأ التثاقف الحضاري في موضوع البيئة العمرانية المستحدثة، اكدت الدراسة التي اعدها الدكتور عبد الحكيم الحقيل، على أهمية اختزال وهضم الأفكار والمبادئ والأطروحات العمرانية والمعمارية الأجنبية، ووضعها في الإطار المناسب من المحيط الحضاري والاجتماعي العربي الإسلامي، كما اهتمت الدراسة باختيار وتمحيص العلاقات الاجتماعية ومفهوم الهوية في البيئة العمرانية، وذلك باستخدام الأسلوبين التحليلي النوعي والكمي للنتائج المستنبطة من البحث الميداني.

مدينة التراث الإسلامي وكان عدد من الأوراق قد تناول التراث العمراني في كل من مدن: الهفوف، العلا، والقصور الملكية في مكة المكرمة في عهد الملك عبد العزيز، والشكل المعماري للمدينة المنورة في نهاية العصر العثماني وبداية العصر السعودي، ومنطقة جدة التاريخية.

وحول الوسط التاريخي لمدينة الهفوف اعتبرها الدكتور مشاري بن عبد الله النعيم، من كلية العمارة والتخطيط، بأنها من المدن التاريخية المهمة في شرق الجزيرة العربية، رغم ان عمرها لا يتجاوز الستة قرون، الا ان المنطقة ذاتها موغلة في القدم وتميزت عبر تاريخها الطويل ببناء العديد من المدن الكبيرة كالأحساء التي قارنها الرحالة ناصر خسرو في القرن الرابع الهجري، بمدينة القاهرة عاصمة الفاطميين آنذاك. وناقش الباحث ثلاث قضايا رئيسية منها القيمة المعمارية لمدينة الهفوف، وإمكانية المحافظة على هذه العمارة، مع الأخذ في الاعتبار الخصوصية الثقافية والاجتماعية والاقتصادية للمدينة.

وأفاد الدكتور محمد عبد الهادي الشيباني في ورقته عن التراث العمراني في العلا، الى انها تعد المدينة التراثية الإسلامية الباقية في أنحاء الجزيرة العربية الى الآن، وتشبه الى حد كبير المدن الأندلسية والمغربية، مشيراً إلى أن تاريخها يقارب 700 سنة، وفيها 769 بيتاً تهدم بعضها والآخر آيل للسقوط. ويتألف كل بيت من دورين علوي وسفلي، والبيوت مبنية من الحجر في الدور الأول، أما العلوي فيكون بناؤه في الغالب من اللبن، وتسقف بسيقان النخيل أو الاثل، والأزقة طويلة وضيقة، ويطل بعضها على بعض، وهي مسقوفة، الا بعض اجزاء منها يسمح بدخول الضوء والهواء، وعرضها من مترين إلى ثلاثة أمتار. ويوجد في الأزقة ما يسمى بالدكة، لتجمع الناس أثناء البيع أو الحديث مع بعضهم بعضا. ولها أبواب محكمة ومقفلة ليلاً وتفتح عند الصباح ليخرج الناس الى المزارع، وعدد الأبواب خمسة عشر بابا، وتسمى الأسوار.

وفي دراسة للدكتور ناصر بن علي الحارثي، عن القصور الملكية في مكة المكرمة، في عهد الملك عبد العزيز، ركز على أهمية العناصر المعمارية والزخرفية فيها، وكيفية إعادة توظيف تلك القصور من خلال الاستثمار الوقفي وليس العكس، وخلصت الدراسة الى اهمية هذه القصور لسكنى ملك البلاد وأسرته وحاشيته بها، واستقبالاته الرسمية والشعبية فيها، وتسييره أعمال الدولة منها، فضلا عن الاحداث التاريخية التي شهدتها، التي كان لها أثرها في تقرير شؤون السعودية وعلاقاتها بدول العالم، مما يتوجب المحافظة عليها، بترميمها وصيانتها وإعادة توظيفها.

وبينت الدراسة تدرج الملك عبد العزيز في سكناه بالحجاز، بالسكن في قصور بعض الوجهاء والأعيان الذين عرضوا عليه السكن في قصورهم، ثم استئجار بعض القصور والأراضي المحيطة بها، واخيرا شراء الأراضي والبناء عليها، وهذا التدرج نتج عن الظروف والإمكانات المالية للدولة آنذاك.

وقد استخدم في بناء هذه القصور ما توفر من مواد في البيئة المحلية، مع استيراد ما لم يتوفر فيها مما تحتاج الضرورة المعمارية اليه، ولوحظ في تخطيطها تحقيقها لاغراض السكنى والاستقبال وادارة امور الدولة، كما تميز طرازها بالمزج بين العناصر المعمارية والفنية المحلية ومثيلاتها الخارجية، بالنظر الى اعتبار منطقة مكة المكرمة اكثر المناطق اتصالا مباشرا بالعالم الخارجي، حيث تفد اليها وفود الحجيج والمعتمرين من أنحاء العالم.

وفي ختام فعاليات الندوة وضمن ترأسه لجلسة اليوم الثالث أكد الأمير عبد العزيز بن فهد بن عبد الله، نائب الأمين العام للهيئة العليا للسياحة للاستثمار والتسويق، على ان السعودية غنية بتراثها العمراني المنتشر في الاحياء ومراكز المدن التاريخية والقرى الريفية والمباني والمعالم التاريخية. واشار الى ان المسح الميداني الذي قامت به الهيئة العليا للسياحة بالتعاون مع الجهات المحلية في المناطق انهى تسجيل ما يقارب من 2000 موقع للتراث العمراني، منها أكثر من 800 موقع قابلة للتنمية والاستثمار السياحي وأكثر من 170 موقعا مطروحة للاستثمار في وقتنا الراهن.

هذا وقد أوصى المشاركون بضرورة استحداث تنظيم مؤسسي يتولى المهام والمسؤوليات ذات العلاقة بالتراث العمراني وينسق العمل والأدوار بين الشركاء المعنيين، وإنشاء مجموعة استشارية في الهيئة العليا للسياحة تضم الجهات المعنية بالتراث العمراني في القطاعين العام والخاص، اضافة الى عقد لقاء سنوي لرؤساء بلديات المدن والقرى التي تحوي تراثا عمرانيا في السعودية، والعمل على اعتماد نظام خاص بالمحافظة على التراث العمراني وتنميته، وكذلك تشجيع انشاء مجموعات وجمعيات ومؤسسات اهلية متخصصة في حماية التراث العمراني والمحافظة عليه وتنميته في كل منطقة ومحافظة (مجموعة اصدقاء التراث).

كما طالبت الندوة بتنفيذ برنامج وطني للتوعية بأهمية التراث العمراني ودوره في التنمية وتخصيص يوم للتراث العمراني الوطني، اضافة الى إحداث جائزة وطنية سنوية على مستوى رفيع تقدم للمشروعات المعمارية التي افادت في إحياء التراث العمراني والعمارة التقليدية، وادخال موضوع التراث العمراني في التعليم العمراني القائم في الكليات والمعاهد المتخصصة في السعودية.

تجدر الاشارة الى ان هذه الندوة كانت تحت رعاية الامير سلطان بن عبد العزيز، وافتتحها نيابة عنه الأمير سلطان بن سلمان امين عام الهيئة العليا للسياحة، وعقدت بمركز الملك عبد العزيز التاريخي في العاصمة الرياض.