نظرة إلى بيت لحم... مدينة المهد وملتقى الحضارات والتحولات التاريخية

TT

من أعظم المواقع الأثرية الدينية في منطقة الشرق الأوسط مدينة بيت لحم الفلسطينية الواقعة الى الجنوب من مدينة القدس على الطريق الى مدينة الخليل. والحقيقة ان المدن الثلاث تحظى بأهمية دينية وحضارية بالغة لأنها معالم في تطور الأديان التوحيدية الثلاثة اليهودية والمسيحية والاسلام. بيت لحم هي الأصغر بين المدن الثلاث وأقلها اتصالاً بتاريخ الاسلام، الا انها تتحول قرب نهاية كل عام ميلادي الى ملتقى أنظار مسيحيي العالم لأن فيها، وتحديداً في ما أصبح كنيسة المهد، ولد السيد المسيح عيسى بن مريم عليه السلام. وبفضل هذا الموقع تعد بيت لحم بجانب مدينتي الناصرة والقدس أهم حواضر المسيحية في فلسطين.

* تاريخ عريق

* قبل مولد المسيح بنحو ثلاثة آلاف سنة عرفت بيت لحم كقرية كنعانية. وتشير المصادر التاريخية الى ان القبائل الكنعانية التي هي اول من توطن فلسطين كانت تقيم في تجمعات ودساكر صغيرة مسورة بينها بيت لاحاما التي يعني اسمها معبد الإله لاحمو، وهو اله الخصوبة عند الكلدانيين، الذي اعتمده الكنعانيون وكرموه وشيدوا له المعابد. ويقال ان موقع ذلك المعبد كان في التل الحالي حيث كنيسة المهد. الا ان أول مرة ورد فيها اسم المدينة كان في رسالة فرعونية من فترة تل العمارنة ارسلها الثالث الحاكم المصري لفلسطين الى الفرعون المصري امنحتب الثالث نحو عام 1350 قبل الميلاد. في تلك الحقبة اشارت المراسلات الى ان بيت لحم محطة مهمة على طريق القوافل المتنقلة بين الشام ومصر وثغر حدودي مهم على تخوم الصحراء الى الشرق منها. كذلك تذكر بعض الوثائق ان سكان المنطقة الساحلية من فلسطين سكنوا بيت لحم وتزاوجوا مع كنعانييها. والواضح ان من الاسمين اللذين اطلقا على المدينة وهما بيت لحم الذي يعني ايضاً «بيت الخبز»، وإفراته الذي يعني «المثمرة» انها كانت تقع في حقول خصبة حقاً.

اما بالنسبة للتوراة (العهد القديم) فقد ورد ذكر بيت لحم لأول مرة تحت اسم إفراته في سفر التكوين (الاصحاح 35:19) عند الاشارة الى ان راحيل زوج يعقوب توفيت على مشارفها بينما كانت تلد ابنها الأصغر بنيامين (شقيق النبي يوسف عليه السلام) وقد دفنت حيث توفيت. كذلك ربطت التوراة بيت لحم بقصة راعوث جدة النبي داود في القرن الـ11 ق م التي كانت تعمل في حقل يملكه بوعاز قرب القرية (او المدينة). وبعدما تزوجها بوعاز انجبا عوبد الذي بدوره انجب يسي والد داود. وقد عرفت بيت لحم بـ«مدينة داود» بعد انهيار تجربة مملكة اسرائيل في عهدها الملكي الأول مع عصيان الملك شاؤول مما أدى الى ان يمسح صموئيل كبير الأحبار ملكاً جديداً بديلاً هو الفتى وراعي الغنم داود بن يسي.

بعدها جاء في نبوءة النبي ميخا اليهودي عام 750 ق م ان بيت لحم الصغيرة سيولد فيها المسيح بالقول «وانت يا بيت لحم إفراته، انك صغيرة في ألوف يهوذا، ولكن منك يخرج لي مَن سيكون متسلطاً على اسرائيل ومخارجه منذ القدم، منذ أيام الأزل» (الاصحاح 2:5).

وقبل نحو ثلاثة آلاف سنة شهدت بيت لحم أعظم حدث في تاريخها على الاطلاق الا وهو مولد عيسى بن مريم فيها. وحسب المراجع «في تلك الأيام صدر أمر عن القيصر اغسطس (اوكتافيوس قيصر) باحصاء جميع أهل المعمور. وجرى هذا الاحصاء الأول اذ كان قيرينيوس حاكم سورية. فذهب جميع الناس ليكتب كل واحد في مدينته. وصعد يوسف ايضاً من الجليل من مدينة الناصرة الى اليهودية الى مدينة داود التي يقال لها بيت لحم، فقد كان من بيت داود وعشيرته، ليكتتب هو ومريم خطيبته وكانت حاملاً. وبينما هما فيها حان وقت ولادتها، فولدت ابنها البكر، فقمطته وأضجعته في مذود لأنه لم يكن لهما موضع في المضافة».

بعدها، بعد قضاء الرومان على ثورة اليهود الثانية عام 135 م شيد الأمبراطور الروماني ادريانوس معبداً للإله آدون فوق موقع مغارة الميلاد، وبذا دونما قصد منه خلد ذكر ذلك الموقع وحفظه. وعام 325 م اثر اتاحة حرية ممارسة شعائر الدين المسيحي طلب القديس مكاريوس أسقف القدس من الامبراطور قسطنطين استعادة موقع الميلاد، وشيدت على الأثر هيلانة والدة الامبراطور أول كنيسة مسيحية فوق المغارة عرفت حتى اليوم بكنيسة المهد.

* الفتح الاسلامي

* عام 638 م احترم الفاتحون العرب المسلمون قيمة الموقع، ومارسوا في عهد الخليفة الثاني عمر بن الخطاب سياسة تسامح وانفتاح ازاء نصارى بيت لحم والقدس. وبعد فترة من القلاقل احتل الصليبيون بيت لحم عام 1099 م. وعام 1155 شهدت كنيسة المهد تتويج بلدوين أول ملك اوروبي لمملكة القدس الصليبية، الا ان صلاح الدين الأيوبي استعاد بيت لحم عام 1187 وتبعتها سائر مدن فلسطين.