منازل نابلس القديمة الأثرية تعاني من همجية الاحتلال

TT

دمّرت قوات الاحتلال الاسرائيلي أخيراً أجزاء من قصر عبد الهادي، أحد أهم القصور الأثرية في فلسطين، داخل البلدة القديمة بمدينة نابلس. وفي تقرير لوكالة «رويترز» خلال الأسبوع المنصرم أن الجيش الاسرائيلي قصف قصر عبد الهادي الذي يعود تاريخ بنائه الى عام 1820 ميلادي بثلاث قذائف مما احدث انهيارا للواجهة الشرقية الى جانب اضرار اخرى في الجدران الداخلية.

ومما ذكر ان اليونسكو ـ منظمة الامم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة ـ تصنّف مدينة نابلس ضمن المدن التاريخية على قائمة المعالم الاثرية التراثية العالمية، وتقول ان فيها وفي ومحيطها مواقع اثرية يعود تاريخها الى العام 71 قبل الميلاد. اما عن القصر نفسه فكانت تسكن فيه 12 عائلة من آل عبد الهادي، التي تعد احدى أهم الأسر الاقطاعية الفلسطينية خلال القرن الـ19 ومطلع القرن العشرين. لكن جيش الاحتلال طلب منهم مغادرته في الساعة الثالثة من فجر يوم 30 ديسمبر (كانون الاول) الماضي، عندما بدأ حملته العسكرية في المدينة، وبالذات داخل البلدة القديمة تحت ذريعة البحث عن مطلوبين من تنظيمات المقاومة الفلسطينية. وبالفعل استولى الجيش على القصر واجرى عمليات تفتيش في مرافقه وفي طوابقه السفلى التي كانت فيها في السابق الاسطبلات، التي استهدفتها سلسلة من التفجيرات. وبجوار القصر الواقع في حارة القريون بالبلدة القديمة، فقد هدم جيش الاحتلال منزلين بالكامل احدهما متاخم للقصر مما احدث تصدعا آخر فيه.

وعما حدث، قال محافظ المدينة محمود العالول ان «الوضع في القصر القديم وفي حارة القريون، حيث يقع، كان مأساويا وكارثيا منذ اليوم الاول الذي اعاد فيه الجيش الاسرائيلي احتلال القصر والبلدة القديمة.. عبرنا عن قلقنا من هدم مكان اثري هام واجرينا اتصالات مكثفة مع قناصل اجانب وسفارات ومنظمات دولية لبذل جهودها لدى الحكومة الاسرائيلية لوقف عمليات التفجير». الا ان الجيش باشر اعمال النسف اثر تفتيشه قطاع الاسطبلات في الجهة الغربية من المبنى.

* آل عبد الهادي...

* من الناحية التاريخية، برز آل عبد الهادي ـ وأشهرهم حسين عبد الهادي ـ على ساحة السياسة في فلسطين في مطلع القرن الميلادي 19، وكان مركزهم الاقطاعي الأصلي بلدة عرابة القريبة من مدينة جنين. وتشير بعض المصادر الى انهم متفرعون من عائلة اقطاعية عريقة أخرى هي آل جرّار، الذين طال عهد زعامتهم في منطقة مشاريق الجرّار الى الشمال من نابلس والشرق من جنين.

فتبعاً للمصادر التاريخية الفلسطينية، تشكل الحلف القيسي في جبال نابلس في مستهل القرن الـ 19 الميلادي من آل النمر في نابلس، وآل الجيوسي، اقطاعيو بلاد بني صعب او «الصعبيات» (طولكرم والطيبة وقلقيلية) وآل قاسم الاحمد (القاسم)، اقطاعيو الجماعينيات نسبة الى جماعين (جنوب غرب نابلس)، وآل عبد الهادي، اقطاعيو منطقة الشعراوية الشرقية ـ ومعقلهم عرابة ـ الى الجنوب الغربي والغرب من مدينة جنين، وجنوب بلاد حارثة التي كانت اللجون قاعدتها التاريخية.

وكانت لآل النمر ـ الذين تولوا مرارا متسلميات في القدس واللد والرملة ـ وآل الجيوسي، الاسبقية قبل بداية القرن الـ19، لكن نفوذهم ضعف في ما بعد امام القوتين الصاعدتين آل عبد الهادي وآل قاسم الاحمد.

أما الحلف اليمني فكان على رأسه آل طوقان وآل جرّار. وقد امتد آل طوقان اقوى زعماء نابلس غربا وجنوبا وبسطوا نفوذهم خلال القرن الـ19 على اقطاع الجيايسة آل الجيوسي في بلاد بني صعب، وعززوا نفوذهم حتى في مناطق اخرى في شرق الاردن ودمشق. وأما آل جرّار ـ مركز اقطاعهم الاساسي بلدتا جبع وصانور ـ فانهم حظوا بنفوذ وسطوة متزايدتن منذ القرن الثامن عشر خصوصا عندما تولوا متسلمية نابلس. وقد وصل بهم الامر الى تحدي حتى والي عكا الخطير احمد باشا الجزار.

وعلى صعيد اقطاع الاراضي، امتد اقطاع آل جرّار عبر منطقة «مشاريق الجرّار»، التي تحمل اسمهم وتمتد في الجزء الشرقي من قضاءي جنين ونابلس. ومن أهم بلداتهم وقراهم طوباس وقباطية وصانور وجبع. «وفي الحقيقة ان آل عبد الهادي انفصلوا عن ابناء عمومتهم آل جرّار، وتحولوا الى الحلف القيسي، قبل ان يزداد نفوذهم في القرن التاسع عشر فيسيطروا على اقطاع الشعراوية الشرقية».

في هذه الآونة أيضا صعد نجم آل الغازي بقيادة احدهم قاسم الاحمد. ونافس آل طوقان ونازعهم نفوذهم في نابلس، ومد نفوذه من جماعين الى المنطقة الجنوبية من المدينة فيما اصبح يعرف بـ«مشاريق البيتاوي» (نسبة لقرية بيتا) على حساب آل الحاج محمد زعماء المنطقة. ولكن في الوقت نفسه تحول فرع من آل الغازي، هو فرع صادق ريان، عن التحالف القيسي وسار مع اليمنية.

ولاكمال الصورة الاقطاعية للمنطقة، برز في وادي الشعير الممتد من سبسطية (في قضاء نابلس) الى طولكرم وما غربها، آل البرقاوي ـ نسبة الى قريتهم برقا ـ وكانوا من الأسر النافذة فيها. ولكنهم تأثروا مثل الأسر الاقطاعية الاخرى بتقلب الدول وتغير الحظوظ. اذ اعدم ابراهيم باشا الشيخ عيسى البرقاوي مع قاسم الاحمد في دمشق. ومثل آل البرقاوي، كان آل طوقان اكبر الخاسرين من الحكم المصري الذي قوّى آل عبد الهادي. ولكن الانسحاب المصري وعودة العثمانيين الى الوراء، اعادا عقارب الساعة الى الوراء.

* القصر وملامحه

* أما بالنسبة للقصر الأثري في نابلس، فقد شيده محمود عبد الهادي عندما كان ملتزماً اقطاعياً لمنطقة جبال نابلس ابان العهد العثماني، وعام 1865 ورث القصر عبد الرحيم عبد الهادي وأجرى عليه تحسينات. وهو حالياً جزء من وقف العائلة.

الخبير الأثري نصير عرفات يقول عن القصر «انه ليس مثل أي مبنى عادي، بل يرمز الى العمارة الاسلامية الشرقية التقليدية». وهو يقع على سفح جبل جرزيم في منطقه تتوفر فيها ينابيع المياه، وقد شيد على ارض تبلغ مساحتها هكتارين، ويشغل بناء القصر هكتارا واحدا وتشغل الهكتار الثاني حديقة كثيرا ما كان الزوار يطلقون عليها اسم «الحدائق المعلقة».

ويحوي كل طابق مجموعة من الغرف الكبيرة الحجم والتي لا تقل مساحة الواحدة منها عن 60 مترا مربعا، كما لا يقل ارتفاعها عن سبعة امتار يتوسط سقفها صحن تحيط به زخرفة اسلامية. اما سطحها فهو على نظام القباب. واما قصارة الجدران فكانت تتألف من خلطة من الشيد والليف وتعجن بالزيت بدلاً عن الماء. ويبلغ عدد الغرف فيه 144. وفي باحة الساحة الكبيرة للقصر التي تتوسطها حديقة تقبع نخلة باسقة عمرها 150 سنة، و تبدو في الجهة الغربية بقايا الدمار الذي خلفّه الزلزال الذي ضرب نابلس عام 1927.

ولا جدال في ان مبنى القصر القديم يعتبر اضخم مبنى لوال محلي في العهد العثماني من حيث السمات المعمارية.

* نابلس في التاريخ

* اما عن نابلس نفسها، فهي من أعرق مدن فلسطين والمشرق. اذ يقدّر المؤرخون تاريخ بناء المدينة التي أسسها الكنعانيون الى حوالي سنة 2000 قبل الميلاد في موقع بلاطة، شرق المدينة الحالية. ويقال ان النبي ابراهيم (عليه السلام) سكنها لفترة قصيرة، كما يقال ان النبي يعقوب سكنها ايضا. وتحتل المدينة التي أطلق عليها اليهود اسم «شخيم» المنخفض الرحب بين جبلي جرزيم وعيبال، وهي المدينة المقدسة عند السامريين (السَّمَرة). وقد اخذت تسميتها الحالية عندما اعاد الرومان بناءها الى الغرب من المدينة القديمة واسموها «نيا بوليس» أي «المدينة الجديدة»، و تعود اساسات البناء لبعض المباني القائمة حالياً في نابلس للحقبة الرومانية. من جهة ثانية أشار الى نابلس بالاسم كبار الجغرافيين والمؤرخين العرب والاسلاميين أمثال اليعقوبي والاصطخري وابن حوقلل وياقوت الحموي. وحسب نصير عرفات كانت كسوة الكعبة الشريفة تمر من نابلس بواسطة الركب الشامي الذي يلتحق بالركب المصري في واد القلط (في منطقة أريحا في أقصى شرق فلسطين)، وقد لقبت في الماضي بـ«دمشق الصغرى» لتشابه مبانيها واسواقها بمباني وأسواق دمشق. اشتهرت نابلس والمنطقة المحيطة بها في قلب فلسطين بمكانتها السياسية ونضالها المستمر حتى لقبت بـ«جبل النار» واشتهرت من العائلات الاقطاعية التي تعاقبت على فرض نفوذها عليها آل النمر وآل طوقان وآل القاسم (قاسم الأحمد) وآل عبد الهادي.

كما اشتهرت المدينة خصوصاً بصناعة الصابون والحلويات العربية حتى يومنا هذا. وعلى صعيد المباني الأثرية، تضم هذه المدينة العريقة عدداً كبيراً منها، بينها «خان التجار» (سوق الأقمشة والثياب) و«سوق الوكالة» (سوق الحرف اليدوية) وستة حمامات تركية قديمة والعديد من المساجد والبيوت.