المتحف البريطاني يحتفل بعصر التنوير

TT

نظم المتحف البريطاني في لندن، معرضاً خاصاً عن التنوير، بدأ يوم 12 ديسمبر (كانون الأول) الماضي، لعرض بقايا عصر التنوير في بريطانيا خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر.

التنوير كان عصر الكشوف الكبيرة والطفرة التي حدثت في المعارف العلمية ووسائل التقنية، حيث تحول الإنتاج اليدوي البسيط إلى إنتاج آلي أوتوماتيكي، وظهرت الكهرباء ووسائل الاتصالات الحديثة.

بهذه المناسبة يعرض المتحف حوالي خمسة آلاف قطعة أثرية لعصر التنوير، أمكن تجميعها من عدة متاحف ومقتنيات خاصة ليراها الزائرون، ويبين المعرض الطريقة التي كان الناس يفهمون بها عالمهم منذ مائتي سنة، وكيف حدث تغير جوهري في هذا الفهم نتيجة الكشوف العلمية التي تحققت منذ عصر النهضة.

والتنوير حركة فكرية خلال مرحلة مهمة من تاريخ أوروبا الحديث في القرنين 18 و19، قام بها الفلاسفة والعلماء، الذين نادوا بقوة العقل وقدرته على فهم العالم وإدراك ناموسه وقوانين حركته. وبدلا من الاعتماد على الخرافة والخيال، اعتمد التنويريون على التجربة العلمية والنتائج المادية الملموسة. ولعل من أهم أعلام التنوير في بريطانيا، فرانسيس بيكون، المحامي الانجليزي الذي طالب بالاعتماد على منهج علمي جديد يقوم على أساس من التجربة. وبشّر بيكون بحالة جديدة تتحقق في المستقبل، عندما تصبح المعرفة مصدر القوة التي تمكن الإنسان من السيطرة على الطبيعة. كذلك اسحاق نيوتن، عالم الرياضيات، الذي قال بأن العالم يسير حسب مجموعة من القواعد الطبيعية تحكمها قوى عوامل الجاذبية. وأكد نيوتن أن في استطاعة الإنسان إذا اعتمد على نور العقل تفسير الظواهر الطبيعية وإدراك دوره في العالم المجهول.

حدث تطور ثقافي وحضاري مهم في أوروبا، يعرف باسم «عصر النهضة» أو الـ «رينيمانس» في القرن 15، بعد فتح القسطنطينية وإقدام مدينة فلورنسا الإيطالية، على استيراد الكتب التي تخلص منها العثمانيون عند بداية دولتهم من مكتبة القسطنطينية، وترجمتها من اليونانية إلى اللاتينية، وكانت أهم هذه الكتب هي المتعلقة بفلسفة أفلوطين والفلسفة الهرمسية التي خرجت من الاسكندرية، والتي تتحدث عن السحر والعلم. ولما كانت العلوم الطبيعية الفيزيائية تعتبر فروعاً مما عرف بالسحر في العالم القديم، أدت ترجمة هذه الكتب إلى ظهور فروع هذه العلوم لأول مرة في الغرب. وكانت نتيجة انفتاح أفق المعرفة في أوروبا، ظهور حركة ترجمة واسعة لكنوز معارف العالم الكلاسيكي القديم من اليونانية والعربية إلى اللاتينية.

ومع بداية القرن الثامن عشر، ظهرت حركة ثقافية أخرى خاصة في فرنسا وإنجلترا وألمانيا، تعرف باسم «حركة التنوير» أو الـ «انلايتنمنت». وبينما اعتمدت حركة التنوير على ثقافة عصر النهضة، فإنها أخذت طابعاً اكاديمياً ونهجت فلسفة ذات طبيعية سياسية. فحركة التنوير هي التي طوّرت الجامعات واصدرت دوائر المعارف، ووضعت أسس البحث العلمي الحديث.

إلا ان رجال التنوير الأوروبي ـ بسبب ظهورهم في مرحلة تاريخية كانت فيها أوروبا تعدّ لمد سيطرتها على باقي شعوب العالم ـ حرصوا على التفرقة في فلسفاتهم بين الرجل الأبيض الذي ينتمون إليه، وبين باقي الأجناس التي يجب أن تخضع له. ومن يستعرض الفلسفات الأوروبية التي ظهرت في عصر التنوير، يجد فكرة تقسيم السلالات والأجناس على رأس ما تهتم هذه الفلسفات بتأكيده مع الاعتقاد بتفوق الجنس الأوروبي، مما جعلهم يرفضون الاعتراف بالأصل الشرقي للحضارة الغربية واعتبار اليونان أول من استخدم الفلسفة ومارس التجربة العلمية.

لقد كان الاعتقاد السائد حتى عصر التنوير الأوروبي الحديث، يعترف بالأصل الشرقي لفكر اليونان، وبالتالي لأصل الحضارة الغربية ذاتها. ويرجع هذا الاعتقاد في بدايته إلى الكتّاب اليونان أنفسهم، الذين يقرون عدة حقائق تتعلق بأصل حضارتهم، عندما يتحدثون عن هجرات قديمة ـ منذ منتصف الألفية الثانية السابقة ـ من مصر وبلاد الشام إلى ارض اليونان، كما انهم يعترفون بأن أصل معارفهم الفلسفية والعلمية هو ما تعلموه من حضارات مصر وبلاد الهلال الخصيب.

ورغم ان حركة التنوير الاوروبية كانت تهدف إلى القضاء على التفرقة بين المواطنين، التي تقوم على أساس من الاعتقاد الديني أو الأصل السلالي، اتجهت هذه الحركة نفسها وجهة اخرى، في ما يتعلق بالشعوب غير الأوروبية. فلم يمانع هؤلاء المستنيرون الأوروبيون من القول بوجود هذه التفرقة مع الشعوب غير الأوروبية، بل انهم أقاموا حاجزاً جديداً عن طريق تصنيف الإنسان تبعاً لأصله العرقي، معتبرين أن تفوقهم الحضاري الجديد، يرجع الى خاصية بيولوجية متقدمة في أصلهم الآري. وتأكيدا لتفسيرهم الجديد لأصل حضارة اليونان، قال مفكرو التنوير الأوروبي إن ظهور فلسفة اليونان لم يكن نتيجة لاتصالهم بحضارات الشرق القديمة التي سبقتهم بعدة آلاف من السنين، إنما يرجع إلى هجرات قبائل آرية من وسط وشمال أوروبا، أحدثت ـ بسبب تفوقها العرقي ـ تغييراً جوهرياً في الفكر اليوناني.

إلا ان وجهة النظر هذه بدأت تواجه معارضة قوية في القرن العشرين، بعد انتشار البعثات الأثرية التي أخرجت بقايا قديمة، سواء من بلاد اليونان أو من البلدان الشرقية، ولم يعد من الممكن تجاهل حقائق التاريخ والاكتفاء بنظريات المفكرين الافتراضية. يقول شستر ستار، في صفحة 193 من كتابه عن «أصول الحضارة اليونانية»، الصادر في لندن عام 1962: «لأن معلوماتنا عن الاتصالات بين الشرق والغرب ـ خاصة من خلال فنون وكتابات سورية وفينيقية ـ تزايدت، ظهر إحياء للفكرة القديمة بأن الحضارة اليونانية كانت أساساً امتداداً للشرق. يربط أتباع وجهة النظر هذه (الشاعر) هومر مباشرة بالتراث الملحمي الشرقي، ويؤكدون حجم مديونية الميثولوجيا (الأساطير) اليونانية لمجموعة من أساطير الشرق الأدنى، ويجعلون الديانة والفكر اليوناني استمراراً بشكل عام للتأثير الشرقي. وفي حقل الفنون، يميل اصحاب هذا الاعتقاد من الدارسين إلى العثور على نماذج أصلية شرقية عديدة للأشكال والمواضيع الفنية اليونانية في عصر الثورة، حتى ان الفن اليوناني يمكن تسميته (فناً شرقياً). فبعد انهيار الحضارة الميسينية في بلاد اليونان، عند بداية القرن الثاني عشر قبل الميلاد، سادت البلاد فترة عرفت باسم «عصور الظلام»، وبينما هاجر الميسينيون من بلادهم في بدايتها، حلت محلهم بعد ذلك أقوام جاءت من أوروبا في الشمال. وخلال عصور الظلام، حدث انقطاع في الاتصال التجاري بين بلاد اليونان والشرق طال حتى نهاية القرن التاسع قبل الميلاد، عندما أصبحت اليونان متصلة بشرق البحر المتوسط ثقافيا في البداية ثم سياسيا بعد ذلك. وازداد هذا الاتصال تدريجيا إلى ان زحف الاسكندر الأكبر إلى الشرق في الربع الأخير من القرن الرابع قبل الميلاد. ومن يطلع على نتائج الحفريات الأثرية، لا بد له أن يقر بأن التجار الفينيقيين ـ وليس المهاجرين الأوروبيين ـ كانوا هم أصحاب الفضل في حمل شعلة الحضارة إلى بلاد اليونان، التي أدت إلى تلاشي عصور الظلام، عن طريق نقل نماذج الفنون الشرقية إليها.