عالم عربي بجامعة لندن : المسلمون فكوا طلاسم الحضارة المصرية القديمة قبل شامبليون بألف سنة

الدكتور عكاشة الدالي لـ«الشرق الأوسط»: دلائل ونقوش تؤكد وجود العرب في أرض مصر منذ عصر ما قبل الأسرات

TT

يقول الباحث العربي الدكتور عكاشة الدالي، الذي يعمل محاضرا في جامعة لندن ببريطانيا، إن العلماء العرب فى القرون الوسطى الذين كتبوا عن مصر القديمة «فكوا طلاسم الحضارة المصرية القديمة قبل العالم الفرنسي جان فرانسوا شامبليون الذي ينسب اليه فك رموز الكتابة الهيروغليفية بالف سنة على الاقل» عبر حله شيفرات حجر رشيد. الدالي، المولود في مصر والمتخصص فى علوم المصريات والذي يعمل في متحف بيتري بلندن، عرض خلال لقاء أجرته معه «الشرق الاوسط» في علم الاثار المصرية ما يعتبره حقائق غابت أو غيبت وسط معلومات اخرى. وشدد على «فضل الباحثين والدارسين العرب بعرض اللغة المصرية القديمة في انتاجهم الادبي الذي نهل منه الاخرون ثم تناسى هؤلاء الاشارة الى المصادر التي استقوا منها معلوماتهم بل نسبوها احيانا الى المصادر الغربية». وكشف الدالي خلال اللقاء عن اسماء علماء من مصر وغيرها من البلدان العربية مثل أيوب ابن مسلمة والصوفي ذو النون المصري وجابر بن حيان وابو بكر بن وحشية وابو القاسم العراقي قائلاً «ان جميعهم ساهموا في فك طلاسم الخطوط المصرية قبل وصول الحملة الفرنسية الى ارض مصر عام 1789 بألف سنة على الاقل في حدود القرن الثامن الميلادي».

* صلة رحم بين اللغة العربيةوالمصرية القديمة

* يشير الدالي الى «وجود صلة رحم» بين اللغة العربية واللغة المصرية القديمة، وهو الأمر الذى تنبه الى أهميته علماء اجلاء مثل المصري أحمد كمال باشا والليبي علي فهمى خشيم والسوري محمد بهجت قبيسي. ويتابع أن وجود العرب كان وجوداً ملموساً في ارض مصر قبل وقت طويل من الفتح الاسلامي العربي، كما كان للمصريين وجود مماثل في شبه الجزيرة العربية، وهذا ما دلّت عليه ابحاث العلماء الأفاضل مثل أحمد فخري وعبد العزيز صالح ومحمود عبد الحميد وغيرهم . ومن الطريف أن أسماء عربية شهيرة كانت متداولة أيضا فى مصر القديمة، والعكس أيضا صحيح، مثل الخنساء الشاعرة العربية، وهو أيضاً اسم زوجة بعنخي الملك النوبي الذي اسس الأسرة الخامسة والعشرين النوبية في مصر، وهناك اسم أحمس الذي يظهر في المصادر اليمنية كاسم لأمير عربي هو أحمس بن ايوف كما أورده الأصمعي. وهناك ايضا التاجر اليمني زيد الله، من القرن الثالث قبل الميلاد، الذى استقر في مصر كاهنا بمعبد بتاح في ممفيس ويوجد تابوته المنقوش بخط المسند اليمني الآن في المتحف المصري في القاهرة. كما ترد اشارات متعددة للعرب في المصادر المصرية القديمة تحت اسم «عرب» اقدمها اشارة في نص ديموطيقي يتحدث عن غزوة ملك مصري من الأسرة الثانية عشرة الى «بلاد العرب»، وكان يوجد في اقليم اسيوط بلدة اسمها «كوم ارابوس»، اي مدينة العرب من القرن الثالث قبل الميلاد.

أما في الدلتا فأمكن العثور على آثار تدل على وجود قبائل عربية في عصر أقدم، شيدت معابد لآلهتها العربية في الدلتا. وهنا يشير الدالي الى ماذكره الواقدى في كتاب فتوح «البهنسا» من وجود«قبائل عربية تحارب ضمن صفوف المصريين ضد جيش الفتح الاسلامي».

ويقول «"كل هذا يدل دون شك على وجود العنصر العربي في ارض مصر قبل الفتح الاسلامي».

* المسلمون فكوا طلاسم الهيروغليفية

* وفي ما يتعلق بالقضية الأخرى، وهي اهتمام العرب بدراسة الحضارة المصرية القديمة، يركّز الدكتور الدالي على خطأ الاعتقاد السائد بأن علماء الغرب هم الذين انفردوا بالريادة في علم المصريات منذ حملة نابليون على مصر عام 1798، وما تلاها من نجاح العالم الفرنسي شامبليون بفك رموز اللغة الهيروغليفية في عشرينات القرن التاسع عشر الميلادي. ثم يتطرق الى ما يصفه بـ«خطأ آخر هو الاعتقاد بأن العرب والمسلمين كانوا يعتبرون مصر القديمة حضارة جاهلية وثنية، ومن ثَم لم يبدوا أي اهتمام بها وبثقافاتها ولغتها». وهنا يوضح الدالي أنه «قبل الف سنة، عندما كانت الحضارة العربية على مشارف القمة، وتقترب من أوج عظمتها، لم يهتم العلماء العرب فقط بآثار مصر القديمة، بل استطاعوا أيضاً الوصول إلى تفسير صحيح لبضعة رموز هيروغليفية في بحثهم الدؤوب عن حكمة المصريين القدماء وعلومهم»، ويضيف «لقد افترض المسلمون أن مصر كانت أرض العلم والسحر والحكمة، ومن ثَم أرادوا تعلم الهيروغليفية للولوج إلى هذه المعرفة».

وعثر في مكتبات عدة من باريس واسطنبول ولندن ودبلن وغيرها على مخطوطات عربية تضم جداول تكشف المعادل الصوتي لرموز هيروغليفية، وتظهر تعرف العلماء العرب بنجاح على نصف عدد الحروف الهيروغليفية التي اعتقدوا أنها تشكل أبجدية صوتية، وبلغ من دقة معرفة ابن وحشية تمييزه بين الحروف الأبجدية وبين الأشكال التى توضع في نهاية الكلمات المصرية القديمة لتخصيص المعنى والتي نسميها المخصصات، وبذا كان أول عالم يحقق هذا الانجاز العلمي. ايضاً، يشير الدالي الى شيوع استخدام العلماء والفنانين العرب الرموز الهيروغليفية، مثل استخدام العالم الشهير بديع الزمان الجزري في كتابه المشهور «كتاب في معرفة الحيل الهندسية» عام 1205، تلك الرموز في توضيح تصاميمه الهندسية كما يظهر في رسمه لروبوت يقدم المشروبات للضيوف. لكن الأهم في بحث العالم المصري الذي استغرق انجازه قرابة عشر سنوات وتطلب منه السفر الى عدة بلدان للاطلاع على المخطوطات العربية، أنه عندما كان الأوروبيون يظنون في القرون الوسطى أن الرسوم الهيروغليفية ليست إلا رموزًا سحرية تمكن العلماء العرب من اكتشاف اثنين من المبادئ الأساسية للهيروغليفية، أولهما أن بعض الرموز تعبّر عن أصوات أي أنها حروف، والآخر أن الرموز الأخرى تحدد معنى الكلمة بطريقة تصويرية أي انها مخصصات. ويتفق الدالي مع الرأي السائد بأنه في بداية العصر الحديث كان معظم العرب والمسلمين لا يهتمون بالثقافات القديمة، وهو أمر عارض في مجمل تاريخهم. الا أنه مفهوم بالنظر الى وقوعهم تحت الغزو الأجنبي وحرص الغزاة على تنفير العرب من دراسة حضاراتهم القديمة حتى لا تثير فيهم الشعور بالزهو الوطني والاعتزاز الحضاري. ومع ذلك واصل النساخ والباحثون نسخ المخطوطات الإسلامية القديمة عن مصر القديمة وذلك حتى القرن الثامن عشر.

ويشرح الدكتور الدالي «ان أحد اسباب الفجوة المعرفية الآن وهو اقتصار كل من علماء المصريات والدراسات العربية على دراسة مجالات تخصصهم الدقيق فى زمن هو احوج ما يكــون الى تعاون الباحثين فى مجالات علـمية مختلفة. وبالرغم من سعادتي بقضـائي ســنوات البحـث متنقلا بين علوم المـصريات وبين العلوم الاسلامية العربية، الا انه من المؤسف أنني لم أتمكن من دراسة اعداد أكبر مـن المخطوطات، فقد تعاملت مع بضع مئات من المخطوطات الا ان هناك ألوفا أخرى منها ينتظر الدراسة».

ثم يتناول ترجمة مؤلف ابن وحشية عن أنظمة الكتابة القديمة وعنوانه «شوق المستهام في معرفة رموز الأقلام» إلى الإنجليزية على يد المستشرق النمساوي المعروف جوزيف همر، الذي نشره في لندن عام 1806، فيقول ان ذلك تحقق قبل أن ينشر شامبليون حصيلة عمله على حجر رشيد الذي استطاع به فك رموز الهيروغليفية عن طريق قراءة نص منقوش عليه بالهيروغليفية والديموطيقية واليونانية باربعة عشر عاما، موضحاًً ان مكتبات الاديرة القبطية في مصر كانت اماكن لحفظ التراث بعد اندثار كهنة المعابد، وان اللغة القبطية لم تكن قاصرة على الطقوس والصلوات بل كانت تستخدم في مناحي الحياة المختلفة. ويمضي الدالي شارحاً «هناك تراث علمي هام في الحساب والفلك والكيمياء بالكتابة القبطية ترجم عن الكتابة الديموطيقية المصرية القديمة». وذكر ابن النديم في كتابه «الفهرست» ان الكتب القبطية كانت ضمن أول الكتب التي ترجمت للأمير الأموي خالد بن يزيد أول علماء الكيمياء في الاسلام، وهي ايضا بشائر حركة الترجمة المعروفة في العصر الاسلامي. ويتطرق الباحث المصري الى قضية جوهرية فى هذا الصدد متسائلا « ... معروف اهتمام العرب وحرصهم على نقل وحفظ التراث اليوناني، ولكن أليس من باب أولى أن يكون اهتمامهم أقوى وأكبر بنقل وحفظ تراث المصريين القدماء وهم الأقرب ذمة ورحماً؟». ويستطرد «هذا بالضبط مافعلوه، اذ لا يغيب عن بالنا أن الكثير من تراث مصر القديمة كان بالفعل محفوظا باللغات اليونانية والقبطية والسريانية وهي المصادر التي نقل منها الى العربية». ويتابع «ان الكثير من طقوس الديانة المصرية القديمة وهي ديانة بعيدة كل البعد عن الوثنية يمكن دراستها من خلال الطقوس التي يمارسها الصابئة المندائيون الآن، وهم انفسهم يعتقدون بانهم احفاد المصريين القدماء».

وفي هذا الاطار يطالب الدالي علماء الاثار والدين التعمق في دراسة الصلات الروحية والطقوس التي تربط الصابئة المندائيين بالمصريين القدماء. كما يأمل في تكثيف البحث والدراسات عن حياة ومأثورات ذي النون المصري (المتوفى 861 )، الذي ترعرع في معبد مدينة أخميم عندما كان أغلب السكان المحليين ما زالوا يتكلمون القبطية سليلة لغة المصريين القدماء، ويبدو انه نقل الكثير من الافكار عن الديانة المصرية القديمة في انتاجه الادبي، وهو ايضا من علماء الكيمياء التي اشتهرت اخميم بانها احدى المراكز المهمة لدراستها. وقيل انه كان يقرأ النصوص التى تغطي جدران المعبد واتهم اثناء حياته بأنه احدث فى الاسلام ما ليس فيه، اشارة الى ادخاله في الصوفية علم «الأحوال والمقامات»، وهو العلم الذي يمكن للباحث في علم المصريات ادراك صلته الوثيقة بنصوص سكتب البوابات والكهوف» المصرية القديمة. ويلحظ الباحث ان كلمة «صوفية» نفسها من أصل مصري قديم هو «صف» بمعنى الطهور والشفافية والرقة وكلها مما يطمح اليه اهل الطريقة. كما ان لذي النون المصري كتاباً مشهوراً اسمه «حل الرموز وبري الارقام في كشف علوم اصول لغات الاقلام»، ويظهر هذا المخطوط الذي حصلت على نسخة منه أن ذا النون كان يجيد القبطية وبعض الديموطيقية والهيراطيقية وبعض الهيروغليفية ايضا. وللعلم كانت الهيراطيقية و الديموطيقية صورا مختزلة للهيروغليفية.

ثم يقول الدكتور الدالي ليس أدل على ولع أهل مصر بدراسة الهيروغليفية حتى بعد ثبات أركان المسيحية في مصر من تلك الإشارة اللطيفة التي وردت في نصوص نجع حمادي القبطية الغنوصية حيث ينصح هرمس تلميذه بأن يكتب ما يتعلمه من الحكمة على لوح من الفيروز بالحروف الهيروغليفية، ويبدو أن هذا الاهتمام أصبح مدعاة للقلق لدى اباء الكنيسة اذ نجد الراهب القبطي المشهور شنودة (منتصف القرن الخامس الميلادى) يصدر تحذيراً شديد اللهجة ضد دراسة الكتابة الهيروغليفية. وهذا الاهتمام بين عامة الأقباط بكتابات جدودهم يأتي بالرغم من موقف الكنيسة المصرية آنذاك، الذي كان ينظر بعين الريبة الى حضارة مصر القديمة باعتبارها حضارة وثنية.

* اهتمام المسلمين بتاريخ مصر القديمة

* وعلى أي حال، كما يرى الدالي، أدى اهتمام القبط بحفظ بعض ما بقي من تراث أجدادهم سواء في أصوله المصرية او مترجما إلى القبطية او اليونانية الى شيوع فكرة ان الرهبان الأقباط أمناء على حكمة ومعرفة الكهنة الأقدمين. بل يذكر ابن الدواداري في القرن الرابع عشر أن من المصادر المتداولة عن مصر القديمة أحد الكتب القبطية، ويسميه «الكتاب القبطي»، مشيراً إلى استخدام الرحالة والمؤرخ الشهير المسعودي له في القرن العاشر الميلادي. وليس هناك أكثر دلالة على احتفاظ مصر القبطية بتراثها المصري الأقدم من انتشار العناصر الفرعونية في التعاويذ السحرية القبطية، بل ووجود أسماء الآلهة المصرية القديمة فيها جنباً الى جنب مع أسماء المسيح والقديسين المسيحيين. والواقع أن أغلب هذه الكتابات السحرية وجدت طريقها أيضا الى المصادر العربية فانتشرت برموزها المصرية القديمة في السحر العربي. ويتابع الدكتور الدالي ان المشكلة في علم المصريات هو الافتراض بأن المعرفة باللغة المصرية القديمة اندثرت تماماً مع قدوم الإسلام، لكن الحقيقة ان العرب اهتموا كثيراً بدراسة آثار مصر، فالملك الكامل احد ملوك الدولة الايوبية طلب من الشريف أبو جعفر الادريسي اعداد كتاب عن الاهرام فألّف كتاباً من سبعة فصول وصلت مراجعه الى 130 كتابا منها 30 مرجعا عن الاهرام وتاريخ مصر القديمة، كتب الادريسي نفسه ثلاثة منها. وهذا الأمر ينفي ما قيل عن ان الاسلام لم يهتم بما قبله من حضارات وأمم او انه نظر اليها بشكل سلبي.

أخيراً، يشرف الباحث المصري حالياً على اعداد مشروع هو الأول في نوعه في العالم لتشجيع الباحثين في الآثار المصرية على الاهتمام بالمصادر العربية الاسلامية ودراستها بعناية من اجل سد الفجوات القائمة في معرفتنا بحضارة الأجداد نظرا لأن هذه المصادر العربية اقرب للمصريين القدماء منا باكثر من ألف سنة. وهو ينشط حالياً ضمن مهامه في متحف بيتري للآثار المصرية «التابع لكلية يونفيرستي كوليدج كبرى كليات جامعة لندن وأقدمها» في مشروع يهدف لمد جسور التواصل الثقافي بين أبناء الجالية العربية في بريطانيا وبين المتحف الذي يضم حوالي 80000 قطعة من كنوز الحضارة المصرية في عصورها المختلفة، بما فيها تحف الفن القبطي والاسلامي. ويناشد الجميع ابداء الاهتمام بهذا التراث العظيم الذي يجب على العرب جميعاً على اختلاف مشاربهم الاعتزاز به كما كان يفعل اجدادهم خلال العصور الوسطى.