الخبير الألماني فريدريتش هينكل لـ«الشرق الأوسط»: اكتشاف أهرام البجراوية كان صدفة بحتة

قال إن تمويل أعمال الترميم يجري بدعم المؤسسات والأفراد في السودان

TT

في منطقة البجراوية قرب مدينة شندي (الى الشمال من العاصمة السودانية الخرطوم)، يوجد نحو 140 هرما يعود تاريخها الى العهد المروي (900 ق. م ـ 35م)، فقدت الكثير من رونقها بفعل مرور الزمن والعواصف والأمطار وعمليات التكسير والهدم التي استهدفت نهب الكنوز والمجوهرات من غرف الملوك والملكات التي عادة ما تودع بجانبهم لدى دفنهم، ومن أجل اعادة تأهيل هذا الكنز الاثري استعانت هيئة الآثار والمتاحف السودانية بالخبرة الألمانية المتخصصة في التنقيب والترميم للآثار. وقد التقت الشرق الأوسط بالخبير الألماني فريدريتش هينكل الذي امضى نحو 44 سنة في دراسة الآثار السودانية ودار معه الحوار التالي:

* ما هي المشاريع الأثرية التي اسهمتم في تنفيذها في السودان؟

ـ بدأ ارتباطي بالآثار السودانية عام 1960 مع البعثة الأثرية التابعة لجامعة هومبولدت في برلين، وذلك في الحفريات الأثرية بمنطقة شندي شمال السودان، وفي اعداد الحلول لانقاذ آثار النوبة بمنطقة حلفا قبل غرقها بين عامي 1962 و1964 بفعل بناء السد العالي في مصر، ونقل اربعة معابد تحت اشراف اليونسكو من حلفا شمالا الى شرق وسط السودان (حلفا الجديدة)، وكذلك المقبرة الصخرية و 180 مخطوطة صخرية والمساهمة في الحملات المبكرة لترميم المعابد الملكية في مروي، واخيرا العمل على ترميم اهرام البجراوية قرب مدينة شندي.

وهذه الاهرام صممت وشيدت بنسق كلاسيكي جميل، ومن الحجر الرملي القوي والجيد.

* كيف جاء اكتشاف الخريطة التي امكن بموجبها بناء آلية اهرام البجراوية؟

ـ جاء الاكتشاف مصادفة، فقبل يوم واحد من سفري من شندي للخرطوم ثم الى برلين، كنت اتجول واتمعن في كل هرم، ولفت انتباهي وجود خطوط محفورة على هرم منها وقادني التحديق والتمعن في هذه الخطوط المحفورة بعناية شديدة الى انها تظهر وتوضح كيفية بناء الاهرام، وأخذت اسجل الخطوط فوجدتها تشكل مقاسات طولية وعرضية، ثم اخذت في مقارنة هذه المقاسات فوجدتها مطابقة تماما للهرم رقم 2 بقاعدة 5 أمتار وارتفاع 8 أمتار.

* وماذا كان يعني لك هذا الاكتشاف من الناحية الأثرية؟

ـ كان يعني الكثير، فالمهندس الاول الذي صمم الاهرام اراد تبيان طريقة بناء الهرم وحفرها على الهرم لتكون بارزة بالنسبة للعمال والبناة في تلك الفترة البعيدة. وبالنسبة لي فقد اعتبرت انه اهداني ما كنت بحاجة ملحة اليه لترميم الآثار الهرمية وبالشكل والمقاسات التي كانت عليه أو التي بنيت بها، بل واستخدمت في بعض الاهرام التي انهارت او تهدمت الطريقة ذاتها التي بنيت بها.. بوضع حجارة القاعدة ثم استخدام الشادوف الذي استخدمه المهندس القديم لرفع الحجارة للطبقات الاعلى للهرم. لقد كان عمال البناء ينقلون الحجارة بالايدي ثم يستخدمون الشادوف في رفع الحجر مع ارتفاع علو الهرم، وبهذه الطريقة امكن ترميم 8 اهرامات.

* هل اهرام البجراوية ـ حسب رأيك ـ مجرد كتلة من الحجارة تقتصر على الكتابات والرسوم؟

ـ لا، توجد في كل هرم غرفة أمامية وغالبا ما تكون في الجانب الشرقي من الهرم وتحفظ فيها الاحتياجات والمواد والمقتنيات الخاصة بالملك أو الملكة. وتوجد في هذه الغرف رسوم لملوك وملكات ينتمون للعهد المروي من القرن الرابع قبل الميلاد الى القرن الرابع الميلادي.

* هل يعتبر ترميم الهرم عملية شاقة؟

ـ انه في الواقع عمل صعب بعض الشيء، خاصة بوجود حرص على ان يكون للهرم الشكل المطلوب. واعتقد ان البناة القدامى حتى في تلك الفترة البعيدة كانوا يأخذون وقتا طويلا ويؤدون عملا شاقا. فالعمل مقسم على مجموعات بشرية كبيرة من عمال لقطع الحجارة وعمال للترحيل وعمال للبناء والذي كما سبق القول يبدأ بالقاعدة ثم يرتفع الى القمة. ان تجربتي في الترميم وقد استغرقت نحو اربعين سنة تجعلني اكثر اقتناعا بمهارة البناة والعمال والمهندسين في تلك الحقب البعيدة. فبناء الهرم وبمقاسات محددة وبمواد حجرية معينة عمل ضخم وخلفه عبقرية هندسية ومعمارية عالية بدليل بقاء هذه الاهرام حتى مطلع الألفية الثالثة.

* ولكن هل يمكن انجاز كل الترميمات اللازمة لاهرام البجراوية البالغة 140 هرما؟

ـ نعم، اذا توفرت الامكانيات المادية والخبرة الضرورية، لكن العمل يحتاج طبعا لكثير من الوقت والجهد.

* كم يكلف ترميم الهرم الواحد؟

ـ نحو 25 ألف دولار.

* ومن يتولى التمويل؟

ـ تأتي التبرعات والمساعدات من الجهات المعنية والمهتمة بالمحافظة على التراث الانساني، واحيانا من افراد عاديين، فثمة سيدة من بريطانيا رأت اهرام البجراوية واعجبت بها فتبرعت بعشرة آلاف دولار لأعمال الترميم، لكن بالطبع فإن الجهة المعنية أولا بالمحافظة على هذا التراث التاريخي هي الهيئة السودانية للآثار والمتاحف.

* هل لديكم إذاً برنامج خاص بأعمال الترميم؟

ـ نعم، يعطي البرنامج الأولوية للاهرام المهددة بالانهيار لضمان بقائها وصمودها والمحافظة على شكلها ومعمارها.

* كيف مستوى تعاملكم مع أهالي المنطقة؟

ـ أنا اعيش هنا منذ سنوات عديدة، وبنيت لي منزلا بجوار الاهرام ولدي معارف واصدقاء وصلات طيبة مع الجميع واتناول معهم الطعام السوداني، واشرب الشاي في بيوتهم، وهم يبدون تقديرا كبيرا لوجودي بينهم للمعاونة في المحافظة على الاهرام التي ادركوا جيدا انها تشكل رصيدا كبيرا من تاريخهم وتراثهم وحضارتهم، وبالتالي ان واجبهم المحافظة عليها. هذا أمر حيوي ومهم جدا، وهم الآن يساعدون في أي عمل اطلب منهم المشاركة فيه.

* الى جانب اهمية الهرم ما هو اللافت في ملحقاته؟

ـ غرف الدفن مهمة جدا، وتقع تحت الهرم ويبلغ عمقها عشرة أمتار ويهبط اليها عبر ادراج أو سلالم. والغرف الجنائزية في الاهرام السودانية تختلف عن الغرف الجنائزية للاهرام المصرية، فهناك تراها داخل الهرم أما في الهرم السوداني فهي تحت الهرم وعلى عمق عشرة أمتار من ارضه.

* أخيرا ما هي حصيلة الخبرة التي نلتها عبر سنوات العمل بجوار هذه الاهرام؟

ـ استطيع الآن معرفة أي الاهرام اقدم عهدا، وكذلك اعرف جيدا الكيفية التي بني بها كل هرم، واتبع الآن ـ كما قلت لك ـ نفس الطريقة القديمة في عمليات الترميم.